خصومة لا تُحتوى: المعارضة السورية بين مناع وطلاس في زمن الشرع الانتقالي

بعد أقل من عام على سقوط نظام البعث في كانون الأول 2024، وصعود الرئيس الانتقالي أحمد الشرع إلى السلطة، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التاريخ السياسي تتسم بإعادة تعريف السلطة والمعارضة.

لم تعد المعارضة تواجه نظاما ديكتاتوريا كلاسيكيا، بل سلطة انتقالية بهوية إسلامية ذات شرعية جزئية؛ تحكم بدعم دولي وإقليمي، وتُواجَه بانتقادات من أطياف سياسية ترى أنها تكرّس استمرارية ضمنية لنهج الإقصاء لا التغيير.

في هذا السياق، يُقدِّم كلٌّ من هيثم مناع ومناف طلاس نموذجين متمايزين للمعارضة في مواجهة النظام الجديد، يُمكن تحليلها ضمن إطار نظرية شانتال موف حول “الخصومة الديمقراطية” (Agonistic Pluralism).

مناع ومعارضة الشرعنة بدون مؤسسات

هيثم مناع، الأكاديمي والمناضل الحقوقي، لا يرى في صعود الشرع إلى السلطة انتقالا حقيقيا، بل إعادة إنتاج لمنطق تفويض العسكر، وتحييد المدنيين؛ وسعى عبر تأسيس “الكتلة الوطنية السورية المعارضة” في أيلول 2025، إلى تقديم بديل مدني متكامل، يدعو إلى سلطة تأسيسية دستورية، لا إلى شرعية الأمر الواقع.

يرفض مناع أن يكون العسكر هم من يمنحون الشرعية، ويشدد على أن غياب العدالة الانتقالية وعدم إشراك القوى الوطنية في مسار تشكيل السلطة يمثل انحرافا عن أهداف الثورة، لذلك يرفض نظام الشرع بوصفه تسوية خارجية غير نابعة من إرادة السوريين، ويضع مشروعه في موقع معارضة جديدة، لا تقتصر على نقد النظام السابق بل تشمل أيضا مقاومة التلاعب بمفهوم “الانتقال السياسي”.

طلاس بين الواقعية السياسية ورفض الهيمنة الجديدة

العميد مناف طلاس، وعلى الرغم من تعاطيه الإيجابي مع بعض مؤشرات التغيير، إلا أنه لا يُخفي خيبته من هيمنة لون سياسي واحد على السلطة الانتقالية، وفي ندوة باريس التي نُظّمت في أيلول 2025، أشار طلاس إلى أن المرحلة الحالية لا تمثل تحوّلا حقيقيا، بل إعادة توزيع للسلطة ضمن حدود تضمن مصالح الخارج، وتقصي قوى الداخل.

طلاس لا يعارض وجود الشرع بحد ذاته، لكنه يعارض ما يسميه بـ “غياب التمثيل المتوازن”، ويدعو إلى تشكيل مجلس عسكري وطني يوازن سلطة الرئاسة، ويوفّر الحماية للمرحلة الانتقالية، لا أن يتحوّل إلى غطاء لها، ورؤيته للمعارضة تقوم على إصلاح التوازنات داخل السلطة لا على إسقاطها، لكنه في الوقت ذاته، يحمّل النظام الجديد مسؤولية استبعاد قوى وازنة من المعادلة.

شرعية الخصومة ضد هيمنة الوفاق

الديمقراطية لا تقوم على الوفاق القسري، بل على الاعتراف بالاختلاف وشرعية الصراع المنظّم، وفي ضوء ذلك، يمكن فهم مشروع مناع بوصفه تعبيرا عن رفض تحويل الثورة إلى صفقة، ومشروع طلاس بوصفه رفضا لعسكرة السلطة الجديدة تحت ستار الانتقال.

كلا الرجلين يرفضان أن يكون أحمد الشرع عنوانا لاستقرار شكلي، دون أن يترافق ذلك مع تحوّل بنيوي في طبيعة الدولة، والخصومة هنا ليست تجاه شخص الرئيس، بل تجاه منظومة الهيمنة الجديدة، التي وإن ظهرت بمظهر انتقالي، فإنها تكرّر إقصاء الآخر وتكريس خطاب سياسي أحادي.

تفكيك الثنائية الجديدة — معارضة بلا شرعية؟

يحاول النظام الجديد تصوير نفسه كسلطة جامعة جاءت بتوافق وطني، وهو ما ترفضه المعارضة الناشئة التي تمثّلها مشاريع مناع وطلاس، فمناع يشكّك في شرعية السلطة لأنها لم تنبثق من مؤتمر وطني جامع، بينما يصفها طلاس بأنها نتاج تدخل إقليمي فرض إيقاعه على الداخل السوري.

التحدي هنا أن المعارضة الجديدة ليست فقط ضد النظام، بل تواجه أيضا خطابا دوليا يرى في النظام الانتقالي حلا واقعيا ينبغي دعمه، وهذا ما يجعل من بناء خطاب معارض جديد أمرا بالغ التعقيد، لا بد أن يُوازن بين نقد السلطة الجديدة دون الانزلاق إلى الفراغ أو الفوضى.

إعادة تعريف الوطنية السورية

مناع يُعيد تموضع المعارضة حول مفهوم “الدولة المدنية الجامعة”، رافعا شعار الثورة السورية الكبرى: “الدين لله والوطن للجميع”، أما طلاس فينطلق من وحدة الأرض والجيش، رافضا أن تُستثنى أي طائفة أو مكوّن من معادلة بناء الدولة الجديدة.

كلا المشروعين يتجاوزان المعارضة الكلاسيكية، نحو ما يمكن تسميه بـ”المشاركة الصراعية”، حيث لا يكون الخصم خصما للدولة، بل خصمًا لنهج الإقصاء، وفي هذا السياق، تصبح المعارضة ضرورة بنيوية للحفاظ على شرعية النظام نفسه، لا مجرد عائق أمام استقراره.

من يملك الحق في تمثيل السوريين؟

فيما يروّج النظام الانتقالي لنفسه باعتباره ممثلا وحيدا للشعب السوري، تسعى المعارضة إلى استعادة مفهوم التمثيل من خلال آليات تشاركية حقيقية عبر مؤتمرات وطنية، وعدالة انتقالية، وانتخابات ديمقراطية بإشراف دولي، ومناع يرفض أن يُمثَّل السوريون من قبل تحالفات أمنية، وطلاس يطالب بضمانات مؤسساتية تضمن وحدة سوريا وتمنع تفككها.

المواجهة اليوم بين المعارضة الجديدة ونظام أحمد الشرع ليست مواجهة بين ثورة ودولة، بل بين سرديتين للدولة ذاتها: دولة تشاركية تعددية، ودولة تفويض فوقي باسم الاستقرار.

ضمن هذا الإطار، لا يمكن للمعارضة أن تعود إلى سرديات الماضي، بل أن تبني خطابا جديدا يؤسس لديمقراطية فعالة، تُدير التعدد لا تلغيه، وتحمي الخصومة لا تقمعها.

إذا استمر النظام الانتقالي في تجاهل هذه المعارضة، فسيجد نفسه أمام خصومة تتجذّر وتنتج بديلا سياسيا حقيقيا، لا مجرد اعتراض موسمي، الحظة السورية لا تُختزل بسلطة انتقالية تُدار من فوق، ولا حتى بمشروعين متوازيين يرفضان إعادة إنتاج التسلط، فلا مناع بروحه المدنية، ولا طلاس بواقعيته العسكرية وتاريخ عائلته السياسي، يمكن أن يرسم المساحة السياسية المطلوبة، فسوريا لا يمكن أن تكون أسيرة حكم الضرورة، أو نموذجين لخطاب المعارضة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *