من بين الخرائط السياسية المتحركة في الشرق الأوسط، تبرز سوريا بوصفها المثال الأوضح على ما يسميه جويل ميغدال بـ”الدولة الضعيفة التي تتقاطع فيها مساحات الحكم مع مساحات الفوضى”.
دمرت الحرب مؤسسات الدولة المادية، وما تبقى بعد دخول “هيئة تحرير الشام” لدمشق وتشكيل حكومة انتقالية لا يمكن تسميته بـ”الدولة” بمعناها السياسي أو الإداري، بل هو تجميع هشّ لسلطات محلية تتقاطع، وتتنافر، أو تتحالف لحظة بلحظة، دون عقد اجتماعي جامع.
التحليلات والبيانات التي تتحدث عن أن “سوريا على عتبة انتقال سياسي” تهمل جوهر المشكلة؛ فما يجري ليس مظاهر دولة تنهض من جديد، بل هي محاولة لإنتاج بنية للسيطرة بشكل مدني هش، دون إصلاح الشكل القائم على المليشيات (إمارة إدلب) التي أنتجت العنف أصلاً.
أولًا: السلطة كتحكّم وليس حكما
الدولة القوية ليست تلك التي تحتكر السلاح فقط، بل عليها أيضا امتلاك القدرة على إعادة تشكيل السلوك الاجتماعي، والإمساك بأدوات الامتداد المؤسساتي العميق داخل المجتمع، بينما الدولة الضعيفة تكون متواجدة بالاسم، وتفشل في “التحكم في المجال الاجتماعي”؛ فلا تستطيع تنظيم سلوك الأفراد خارج أجهزتها الرسمية.
من هذا المنظور، فإن ما نشهده في سوريا اليوم ليس أكثر من نقل سلطة الأمر الواقع من جيوب محلية إلى مركزٍ مُدمر، دون أدوات دولة، فلم يحدث تحول في العلاقة بين السلطة والمجتمع، بل فقط في موقع هذه السلطة؛ من شمال إدلب إلى قلب العاصمة.
وإذا كان بعض القادة العسكريين السابقين يسعون لإعادة إنتاج أنفسهم كـ”قوى مدنية انتقالية”، فإنهم يفعلون ذلك دون تغيير في الأدوات، وما يزال منطق الولاء والسيطرة والإقصاء هو السائد، لكنه يظهر عبر القانون والمؤسسات.

ثانيًا: المجتمع كفاعل مستقل… ومهدِّد للاستقرار
ضمن التحليل العميق علينا عدم النظر إلى المجتمع بوصفه ضحية سلبية لسلطة قاهرة، بل كـكيان فاعل يتجاوز الدولة حين تضعف، وينشئ شبكاته الموازية، وفي سوريا، تُمثّل المجتمعات المحلية، سواء كانت عشائرية أو طائفية أو دينية أو حتى مناطقية، قوى تنظيمية بديلة عن الدولة، لا تتوقف عند ملء الفراغ، بل تعيد صياغة منطق الحُكم ذاته.
عمليا أدارت بعض هذه القوى شؤونها بنجاح نسبي، مستفيدة من الفراغ الذي ظهر مع انهيار النظام السياسي السابق وما خلفه من عجز إداري نتيجة انكفاء المركز، وفي حالات كثيرة، أصبحت هذه التكوينات أكثر شرعية لدى السكان من مؤسسات الإدارة القائمة.
لكن التحول الذي يحدث اليوم، ويتم الترويج له على أنه “بناء للدولة من جديد”، لا يعترف بهذه الحقيقة، بل يسعى لاحتواء هذه القوى المحلية ضمن إطار شكلي، دون إشراكها الحقيقي أو تقديم رؤية وطنية تتجاوز المحلي، ما يجعل المحاولة قابلة للانهيار عند أول احتكاك جدي مع الواقع.

ثالثا: منطق الهياكل الموازية لا يزال قائما
إن النظام القائم على التبعثر في مراكز النفوذ ينتج مؤسسات غير رسمية توازي أو تتجاوز المؤسسات الرسمية، وهذه سمة الدولة الضعيفة، وفي الحالة السورية، فإن هذه الهياكل تظهر عبر كتائب عسكرية محلية، وشرعيات دينية، وشبكات تمويل خارجي لم تُحلّ، بل جرى إعادة تدويرها ضمن مؤسسات شكلية.
فالرئيس الجديد في دمشق، القادم من خلفية جهادية، لا يمثل قطيعة مع تلك البُنى، بل هو امتداد لها، ويتم تقديمه كواجهة مدنية، لكن منظومة عمله ومرجعياته وشبكة ولاءاته لا تختلف جوهريا عن تلك التي كان يدير بها “المجتمع المصغّر” في مناطق نفوذه السابقة.
وهنا تكمن المفارقة فالانتقال الذي يُفترض أنه يمهّد لعودة الدولة، هو في جوهره نقلٌ للهياكل الموازية إلى المركز، مما يعني توسيع الفشل لا تجاوزه.
رابعا: الانضباط لا يعني الشرعية
إن الدولة القوية لا تُقاس بقدرتها على فرض الانضباط، بل بقدرتها على خلق شرعية داخلية مستدامة، وفي سوريا ربما ينجح النظام الجديد لبعض الوقت في إدارة العاصمة، أو في احتواء بعض القوى المعارضة، لكنه سيظل عاجزا عن إنتاج شرعية حقيقية ما لم يُعِد تعريف العلاقة بين المواطن والدولة.
الشرعية لا تُكتسب بالتهدئة الأمنية، ولا بتسويات مرحلية تفرضها المصالح، بل من خلال مشروع سياسي-اجتماعي يعترف بالتنوع، ويضع قواعد ناظمة للسلطة والمواطنة، وما دام المشروع الراهن قائما على تصدير نفس الأدوات القديمة بصيغ جديدة، فلن تكون النتيجة إلا شرعية معلّقة على خيط هش من التحالفات المرحلية.
خامسا: هل يمكن استعادة الدولة؟
إن استعادة الدولة لا تكون بإعادة بناء المؤسسات فقط، بل بإعادة ضبط علاقتها بالمجتمع عبر إعادة توزيع السلطة والموارد، وفتح المجال أمام التفاوض الحقيقي على العقد الاجتماعي، وفي الحالة السورية، لم يُفتح هذا النقاش أصلا، وما يحدث هو هندسة فوقية للمشهد السياسي، تكرّس منطق النخبة، وتقصي القوى المجتمعية الفاعلة.
إن كل حديث عن “تحوّل سياسي” يظل في خانة الإيهام ما لم يتم البحث في بنية السلطة ذاتها، فمن يتحكم؟ وكيف؟ وباسم من؟ وما دور المواطن في هذا كله؟

الدولة ليست كعلاقة
الدولة هي علاقة حية ومتغيرة بين من يحكم ومن يُحكَم، ويقاس نجاحها بقدرتها على تنظيم هذه العلاقة بشكل سلمي ومنصف.
وما نشهده في سوريا ليس إعادة بناء لهذه العلاقة، بل ترحيل للخلل من مكان إلى آخر، فالسيطرة تتنقل، والأسماء تتغير، لكن البُنى تظل ثابتة، وهي هشّة وتعمل مع مجتمع مشتّت، والدولة غائبة ولا تعترف بغيابها.