منبر الإبداع المعلّق: أزمة معهد الفنون المسرحية تكشف التحولات الثقافية في سوريا

في صباحٍ حار من أواخر أغسطس 2025، كان مدخل المعهد العالي للفنون المسرحية في دمشق أكثر هدوءا من المعتاد، فردهاته التي شهدت نقاشات وتحركات الطلاب باتت فارغة، والملصقات التي تحمل عناوين العروض المسرحية لطلاب السنة الرابعة بدت باهتة وكأنها بقايا حياة سابقة توقفت فجأة.

في الداخل، حيث تصطف القاعات الضيقة ذات الجدران التي شهدت مولد أجيال من الفنانين سادها سكون الموت، ولم يكن هناك سوى صدى خطوات قليلة، فالطلاب تفرّقوا، بعضهم جلس في الممرات يحتسي القهوة الرخيصة من أكواب ورقية، وآخرون تجمهروا في الباحة الداخلية يتجادلون بصوت منخفض، كان الجميع يعرف أن شيئاً غير مألوف حدث؛ خمسة وستون أستاذا ومحاضرا أعلنوا تعليق تدريسهم.

ذاكرة المكان

منذ تأسيسه عام 1977، لم يكن هذا المعهد مجرد مبنى أكاديمي، ففيه صيغت أحلام جيل كامل من الممثلين السوريين الذين حملوا على عاتقهم المسرح والتلفزيون والدراما العربية، فمن غسان مسعود وفايز قزق وأيمن زيدان إلى تيم حسن، مروراً بأيمن رضا وجيانا عيد وباسم ياخور، تكوّنت في هذه القاعات ملامح فن معاصر ظلّ لسنوات يُعرّف صورة سوريا الثقافية.

في المكتبة الصغيرة بالطابق الثاني كتب النقد المسرحي مكدّسة على رفوف ضيّقة، فكثير من الطلاب لم يلمسوا هذه الكتب قط، لكنها بقيت هناك كشهود صامتين على تاريخٍ من المحاولات والإخفاقات والانتصارات، وفي قاعات التمثيل، حيث يجرّب الطلبة مشاهد صاخبة تحت إضاءة ضعيفة، كان يُفترض أن يبدأ العام الدراسي الجديد، لكن الستائر الثقيلة بقيت مغلقة، وأجهزة الإضاءة المتهالكة مطفأة.

بيان الأساتذة

قبل أسبوع من هذا المشهد، اجتمع المدرّسون في قاعة مغلقة، والنقاش كان محتدما، والأصوات تتعالى ثم تخفت، حتى خرجوا بقرار بدا صادما؛ تعليق العمل التدريسي إلى أجل غير مسمى.

البيان الذي أصدروه كان صارما وواضحا:

  • تردّي التجهيزات التقنية.
  • أجور لا تكفي لإعالة عائلة صغيرة.
  • تغييب الهيئة التدريسية عن القرارات الكبرى.
  • والأخطر تعيين عميد جديد من دون انتخابات، في مخالفة صريحة للنظام الداخلي الذي ينص على اختيار العميد عبر تصويت الأكاديميين أنفسهم.

الاسم الذي أثار الجدل كان غطفان غنوم، طالب تم فصله سابقا من المعهد، وغادر سوريا ليعود بعد سنوات، ويتم تعيينه كعميد، وذلك في خطوة سياسية تتجاوز الخيارات الأكاديمية.

طلاب في العراء

في أحد أركان الباحة، جلست طالبة في السنة الثالثة قسم التمثيل، تكتب في دفترها الصغير “كيف يمكن أن نتعلم التمثيل بلا معلمين؟”، ثم تغلقه بعصبية، وبجانبها، يحاول زملاؤها استيعاب ما يحدث، والبعض يتحدث عن السفر، وآخرون عن الانتظار، وقلة يفكرون في الاستسلام.

المفارقة أن هؤلاء الطلاب اختبروا في بداية مسيرتهم امتحانات شاقة من مشاهد تمثيلية وإلقاء شعري وورش عمل، كلها لاجتياز بوابة المعهد، واليوم، بعد أن دخلوا وقطعوا سنوات من التدريب، يجدون أنفسهم عالقين في فراغ إداري لا يشبه أي مشهد مسرحي.

الوزارة تتحدث

ردّ وزارة الثقافة جاء مقتضبا، بل بدا للبعض متعاليا، فاعتبرت أن التعيينات الإدارية من صلاحياتها، وأن “مصلحة المعهد” تقتضي هذه الإجراءات، لكن البيان لم يتطرق إلى شكوى المدرّسين من تغييبهم عن القرار.

في الكواليس، تسرب شعور بأن القضية لم تعد تخصّ المعهد وحده، هي جزء من صورة أكبر، تآكل الثقة بين المؤسسات الأكاديمية والسلطات، فالإجراءات تبدو “سياسة متعمدة” لإنهاء دور المعهد في تشكيل الثقافة السورية، ومنحها لـ”حملات الدعوة” التي تظهر بوضوح في المساجد.

وجوه من الماضي

في أروقة المعهد يسترجع الجميع صورا قديمة لأساتذة رحلوا أو تقاعدوا، أحدهم، بابتسامة واثقة، كان يشرف على جيل الثمانينيات، وآخر، بملامح جادة، مثّل في مسرحيات راسخة في ذاكرة دمشق.

كان هؤلاء، في يومٍ ما، يعتقدون أن المعهد مشروع وطني سيبقى محصنا من التقلبات السياسية، لكن الحاضر يروي حكاية أخرى: مؤسسة تتآكل بنيتها من الداخل، وثقافة مدينة تنهار، وأساتذة يشعرون بالتجاهل، وطلاب بلا مستقبل واضح، وجدران تحمل ذاكرة أكثر مما تحمل حياة.

المشهد الأكبر

ما يحدث في المعهد العالي للفنون المسرحية ليس مجرد أزمة إدارية هو انعكاس لوضع ثقافي متصدّع، فسوريا، التي قدّمت يوما مسرحا طليعيا في المنطقة، تجد نفسها اليوم أمام مفارقة التحول الثقافي، فهناك أجيال ستعيش على “الإنشاد” بدلا من الروايات والمسرحيات العالمية.

أزمة المعهد هي أيضاً أزمة معنى؛ فكيف يمكن لفنان أن يبدع في ظل غياب بيئة تحترم جهده؟ وكيف يمكن لمؤسسة أن تخرّج جيلا جديدا وهي مكبّلة بإهمال إداري وسياسي؟

الخشبة التي صمتت

في إحدى القاعات المغلقة، هناك على منصة مسرح خشبي بقع طلاء لا تزال عالقة على الأرضية، والستائر الحمراء باهتة اللون.. لا أحد يتحدث، لكن المكان نفسه يروي الحكاية، فالمسرح بلا ممثلين، بلا جمهور، بلا حياة.

تلك الصورة ربما تلخص المأساة أكثر من أي بيان.

إلى أين؟

الأساتذة أعلنوا أنهم مستعدون للعودة فور الاستجابة لمطالبهم عبر بيئة تعليمية لائقة، احترام النظام الداخلي، أجور منصفة، ودعم تقني، لكن ما لم يحدث حوار جدي، فإن الأزمة مرشحة للتفاقم.

الطلاب يترقبون، والمسرح صامت، والوزارة صماء، ووحدها دمشق؛ المدينة التي احتضنت المسرح منذ عقود، تعرف أن ما يجري في هذا المبنى الصغير يحدد شكل مستقبلها الثقافي.

في النهاية، ليست الحكاية عن معهد فقط، إنها عن بلد يعيش أزماته المتراكمة في مرآة الفن، فالمسرح الذي علّم السوريين لغة المقاومة والاحتجاج والإنسانية، يجد نفسه اليوم محتاجاً لمن يدافع عنه.

الخشبة التي صمتت في دمشق هي علامة فارقة، فهل تعود لتضيء مجددا أم تبقى شاهداً على زمنٍ فقد إيمانه بالفن؟

1 فكرة عن “منبر الإبداع المعلّق: أزمة معهد الفنون المسرحية تكشف التحولات الثقافية في سوريا”

  1. ميرنا سلام

    خلوا شي ما خربطوا للاسوء يعني ما حدا غيرهم الغهمان بالبلد يا حيف يا وطن

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *