هل يمكن لقانون ضريبي جديد أن يعيد الثقة بين الدولة ومواطنيها في بلد أنهكته الأزمات الاقتصادية وانعدامت فيه العدالة الجبائية؟ هذا هو الامتحان الذي تضعه مسودة قانون ضريبة الدخل السورية على الطاولة اليوم.
بين خطاب رسمي يعد بنظام “عادل، شفاف، تنافسي ومبسّط”، وبنود تحمل إعفاءات غير مسبوقة، تقف أسئلة كبرى بلا إجابة، هل يملك القانون القدرة على كسر إرث طويل من التهرّب والفساد الإداري، أم أنه مجرد محاولة تجميلية ستنهار عند أول احتكاك بالواقع؟
إصلاحات على الورق: ما الجديد؟
المسودة تبدو للوهلة الأولى كقفزة نوعية، فهي ترفع حد الإعفاء إلى 12 ألف دولار سنويا، لتشطب فعليا شريحة واسعة من ذوي الدخل المنخفض والمتوسط من قائمة المكلفين، وهذه الخطوة وُصفت بأنها “انتصار للطبقة الوسطى”، لكنها في الوقت نفسه تربط الضريبة بعملة أجنبية، لتفتح على معضلة سعر الصرف المتعدد في سوريا؛ فأي دولار سيُعتمد؟ وهل سيُحتسب وفق نشرات المصرف المركزي أم السوق السوداء التي تحدد معيشة الناس اليومية؟
في جانب آخر، تبشر الحكومة بإنهاء التعقيدات القديمة عبر الاكتفاء بشريحتين للضريبة على الأجور وشريحتين على الأعمال، لكن الأرقام الدقيقة غابت، لتبقى وعود “البساطة” رهينة نصوص لم تُنشر بعد.
أما أكثر البنود إثارة للجدل فهي الإعفاءات القطاعية، من ودائع المصارف إلى أرباح الأسهم، مرورا بالصادرات والقطاع الزراعي، واللائحة طويلة تضع ثلثي الأنشطة الاقتصادية خارج نطاق التكليف، وبالنسبة للحكومة، فهذه القطاعات هي “قاطرة للنمو وتوفير العملة الصعبة” لكنها أيضا الأقرب إلى مراكز النفوذ المالي، ما يجعل العدالة الضريبية موضع شك.
“الرقمنة” كعصا سحرية: حلم أم فخ؟
الركيزة الثانية للمسودة هي الرقمنة عبر فوترة إلكترونية، وتدقيق بالعينات عبر خوارزميات، وإلغاء الاستعلام الضريبي التقليدي، ومن حيث المبدأ، هذه إصلاحات طال انتظارها، ولكن على الأرض، يواجه المشروع معضلات كبيرة:
- البنية التحتية التقنية ضعيفة؛ معظم المؤسسات الصغيرة لا تملك أنظمة فوترة إلكترونية أو خبرات محاسبية متطورة.
- الكوادر الضريبية لم تتلقَّ بعد التدريب الكافي على التدقيق الرقمي، وتجربة “التدقيق المكتبي” في منتصف 2025 كانت شاهدة على الفجوة الهائلة بين الطموح والتنفيذ.
- حماية البيانات غائبة عن النقاش العام، فمن يضمن أن الفوترة لن تتحول إلى أداة مراقبة إضافية بدلا من أن تكون وسيلة عدالة؟
الوزارة تعد بأن “عبء الإثبات سيكون على الإدارة”، لكن من دون نصوص واضحة وآليات رقابة مستقلة، تبقى هذه العبارة مجرد شعار.
من المستفيد؟ ومن المتضرر؟
المسودة ترسم خريطة رابحين وخاسرين واضحة:
- الرابح الأكبر هي المصارف حيث حصلت على إعفاء عوائد الودائع من الضريبة، ويبدو رسالة مباشرة لإعادة الأموال المكدّسة في المنازل إلى النظام المصرفي.
- المصدّرون والشركات الأجنبية غير العاملة محليا فالإعفاءات تعكس أولوية جذب العملات الأجنبية، حتى لو كان ذلك على حساب السوق الداخلي.
- القطاع الزراعي شهد استمرار للنهج التقليدي بدعم هذا القطاع، ولو بطرق ضريبية.
- المستثمرون في الأسهم والحصص حصلوا إعفاء كامل يثير تساؤلات عن مدى اتساقه مع العدالة الضريبية.
في المقابل، التاجر المحلي الصغير، صاحب المتجر أو الورشة، يجد نفسه أمام تكاليف امتثال جديدة دون أي إعفاءات موازية، وهذا التناقض يعمّق الفجوة بين الاقتصاد الموجّه للتصدير ورأس المال الخاص به، والاقتصاد المحلي الاستهلاكي من جهة أخرى.
الإيرادات في مهب الريح
السؤال الأهم اقتصاديا هو كيف ستعوّض الدولة كل هذه الإعفاءات؟ حجم الاستثناءات واسع لدرجة يهدد بانكماش القاعدة الضريبية بدل توسيعها.
الخيار الأول هو التعويل على الامتثال عبر الرقمنة، حيث تؤدي الفوترة الإلكترونية إلى كشف التهرّب وزيادة التحصيل، لكن هذا سيناريو متفائل، في بلد اقتصاده غير الرسمي يتجاوز نصف النشاط الاقتصادي.
أما الخيار الثاني فهو رفع الضرائب غير المباشرة (على الاستهلاك والسلع)، وهو خيار يضرب مباشرة الفئات الفقيرة التي يدّعي القانون حمايتها.
غياب مذكرة أثر مالية يترك هذه الأسئلة بلا جواب، وفي أنظمة ضريبية راسخة، يُنشر عادة تقييم رسمي لتأثير الإصلاحات على الإيرادات والخزينة.، بينما في سوريا هناك صمت حكومي.
التوقيت: إصلاح في ظل تضخم؟
المسودة تأتي في لحظة اقتصادية شديدة التعقيد، فالتضخم يلتهم الرواتب، ودخول حقيقية شبه معدومة، وأسواق مضطربة، فتوقيت الإصلاح الضريبي في مثل هذه الظروف يثير الريبة، فهل الهدف هو تحديث حقيقي، أم مجرد استعراض سياسي لإظهار أن الدولة “تعمل على الإصلاح”؟
حتى لو دخل القانون حيّز التنفيذ في مطلع 2026، فإن نجاحه سيظل رهين قدرة الدولة على استعادة ثقة فقدت منذ زمن، فالضرائب في نظر المواطن ليست مجرد أرقام، بل عقد اجتماعي، فلماذا أدفع، ولمن؟ وفي بلد يعيش على وقع الانكماش وعدم وضوح استراتيجية اقتصادية، يصبح هذا العقد هشا أكثر من أي وقت مضى.
القانون بين الطموح والواقع
على الورق، تبدو المسودة أقرب إلى ثورة إدارية؛ إعفاءات واسعة، وضرائب مبسّطة، ورقمنة، وإنهاء اللجان التقليدية، لكنها على الأرض تواجه ثلاث فجوات أساسية:
- فجوة الثقة، فالمواطن لا يثق بالإدارة الضريبية، والإعفاءات المصممة للمصارف والأسهم ستُقرأ كخدمة للنخب المالية.
- فجوة التنفيذ، لا بنية تحتية للفوترة الإلكترونية ولا كوادر مدرّبة، وكل وعود الرقمنة تتبخر عند التطبيق.
- فجوة الإيرادات، حيث غياب خطة مالية لتعويض الخسائر يجعل القانون مغامرة خطيرة في ظل أزمة خزينة مزمنة.
بين نص جميل وواقع قاسٍ
المسودة تحمل وعودا لا يمكن إنكارها، فهي تتجاوز إرث “المقطوع” واللجان المترهلة، وتفتح الباب أمام نظام أكثر شفافية، لكنها في الوقت نفسه تحمل بذور فشلها نتيجة غموض سعر الصرف، وغياب خطة مالية، وانحياز واضح للمصارف والمستثمرين الماليين على حساب السوق المحلي.
يرى البعض أن القانون مجرد “ورقة إصلاح” لعرضها في المحافل الدولية، أكثر مما هو مشروع داخلي متكامل، لكن الحكم النهائي لن يصدر من قاعات وزارة المالية، بل من الميدان؛ في السوق، وفي مكاتب المحاسبين، وفي قاعات المحاكم، وهناك فقط سنعرف إن كان هذا النص بداية لإعادة صياغة العقد الضريبي في سوريا، أم فصلا جديدا في مأساة الإدارة المالية.