توماس براك في بيروت… دبلوماسية الظلال أم سياسة الرهانات المعلّقة؟

من بيروت، وعلى مسافة أيام من وقف إطلاق النار الهش في السويداء، خرج توماس براك، المبعوث الأمريكي الخاص إلى سوريا، بتصريحات تجمع بين التنديد والمهادنة؛ إدانة لانتهاكات ارتُكبت بحق المدنيين الدروز، ومطالبة بمحاسبة الحكومة السورية، وفي الوقت نفسه تأكيد على ضرورة التعاون معها باعتبارها الطرف الوحيد القادر على “توحيد البلاد”.

هذه التصريحات المتشابكة ليست استثناء، بل تُعبر عن مبدأ غير مُعلن يوجّه السياسة الأمريكية حاليا تجاه سوريا، فلا شراكة كاملة مع النظام، ولا قطيعة مطلقة معه؛ لا دعم شامل للمعارضة، ولا إقرار بسقوط مشروع الانتقال السياسي، إنها سياسة “الاحتفاظ بسوريا على قيد التفاوض”، لا أكثر.

ولفهم هذه المقاربة الرمادية، لا بد من العودة إلى تاريخ العلاقة بين دمشق وواشنطن التي لم تعرف استقرارا حقيقيا، فمنذ الاستقلال عام 1946، كانت سوريا بالنسبة للولايات المتحدة دولة “عصية على التطويع”، تتقاطع معها تارة في المصالح الأمنية، ثم تصطدم معها في ملفات فلسطين، ولبنان، والعراق، وإيران، فالسياسة الأمريكية تجاه سوريا لم تُبنَ على شراكة استراتيجية، بل على إدارة توتّر طويل الأمد، تتغيّر أدواته دون أن يتغيّر جوهره.

الازدواجية ليست جديدة في السياسة الأمريكية تجاه دمشق، لكن تعقيد المشهد في السويداء، وارتباطه هذه المرة بعنصر إقليمي حساس (الدروز في فلسطين المحتلة وتل أبيب نفسها)، يجعل التصريحات الأخيرة أكثر من مجرد ارتباك بل انعكاس لتحوّل جيوسياسي يتشكّل على نار هادئة.

المحاسبة أم الاستيعاب؟

في تصريحاته الأخيرة، طالب براك بمحاسبة دمشق على ما وصفها بـ”الانتهاكات الموثقة” في السويداء، حيث تورّط عناصر من الأجهزة الأمنية في قمع أهل السويداء، وومصادرة ممتلكات مدنية. ومع ذلك، لم يلبث أن عاد ليؤكد أنّ الحكومة السورية لا تزال “الجهة الوحيدة القادرة على فرض النظام وتوحيد البلاد”، في تلميح لا يخلو من اعتراف بشرعية الأمر الواقع.

هنا تتجلّى المفارقة الكبرى، فواشنطن تطالب بنظام محاسبة من دون مساس بالبنية السلطوية القائمة، إنها سياسة “الاحتواء الأخلاقي” التي ترفع فيها أمريكا سقف الخطاب الحقوقي، لكنها لا تُترجم ذلك إلى آليات مساءلة أو ضغوط ملموسة.

السويداء كمختبر لمعادلة أمريكية جديدة

ليست السويداء مجرد بؤرة توتر جنوبية، بل هي، في الحسابات الأمريكية، مختبر جيوسياسي لصيغة جديدة، تنطلق من تحقيق “استقرار محلي” بتفاهمات جزئية مع النظام، وتحت رعاية غير معلنة لإسرائيل والأردن، دون الحاجة لحل سياسي شامل.

براك بدا وكأنه يسوّق لهذه الفرضية، حيث أطر الأزمة في السويداء ضمن منطق “فضّ الاشتباك الأهلي” لا امتداد لفشل مركزي في إدارة الدولة، وبمجرد القبول بفصل ملف السويداء عن باقي المسارات فإن واشنطن تعكس رغبة في تفكيك الصراع السوري إلى مربعات محكومة بتسويات موضعية لا تفرض عليها إعادة التورط الكلي في المشهد.

” إسرائيل” الحاضرة بصمت… وأحيانا بصاروخ

ما لم يُقله براك صراحة، هو أن “التدخل الإسرائيلي” في أحداث السويداء، بحجة حماية الدروز، لا يعكس تحولا نوعيا في قواعد الاشتباك، فـ”إسرائيل” لم تعد تكتفي بالضربات الجوية ضد “أهداف إيرانية” كما في مرحلة نظام البعث، بل صارت تتدخل سياسيا في تركيبة المجتمع السوري، مع ما يحمله ذلك من تداعيات على وحدة الدولة وتوازن القوى داخلها.

واللافت أن براك انتقد “إسرائيل” بلغة أقرب إلى العتب منها إلى الإدانة، وهو ما يعزز فرضية أن واشنطن ترى في “التحرك الإسرائيلي” عنصر ضغط وظيفي، لا عائقا حقيقيا أمام التهدئة، فهي “لعبة النار المحسوبة”، حيث يُسمح لكل طرف بحرق مساحة محددة ما دام الحريق لا يصل إلى واشنطن.

هل لدى أمريكا رؤية لسوريا… أم فقط أدوات لاحتوائها؟

الانطباع العام أن السياسة الأمريكية تجاه سوريا دخلت مرحلة انخراط مشروط، تتجاوز زمن “الإدارة دون استثمار” لكنها لا تسعى إلى الشراكة الكاملة، فواشنطن لم تعد تتعامل مع دمشق بوصفها خصما ينبغي عزله، بل كسلطة انتقالية قابلة للتطويع، يمكن تشجيعها على الانفتاح مقابل تخفيف تدريجي للعقوبات.

تصريحات براك الأخيرة تعكس هذا المنعطف؛ لغة حذرة تدين الانتهاكات من دون قطع خطوط التواصل، وتشير إلى مسؤولية الحكومة من دون المساس بشرعيتها المستجدة، فهي سياسة “الاحتضان الانتقائي”، حيث تسعى الولايات المتحدة إلى تأهيل النظام الجديد لا احتضانه الكامل، وتوظيف تحوّله كجزء من إعادة تركيب الإقليم لا كهدف نهائي بذاته.

وإذا كان الواقع السوري لا يزال معقّدا، فإن أزمته اليوم لا يتم استخدامها كذريعة للجمود، بل كمنصة لإعادة ترتيب الأولويات، ببطء، وتحت سقف أمريكي منخفض التوقّعات.

إلى أين تتجه واشنطن في سوريا؟

إذا استمرت التصريحات الأمريكية على هذا النحو من التذبذب الموزون، فإن ما يمكن توقعه هو استمرار سياسة “الاحتواء غير المكلف، حيث لا مبادرات كبرى، ولا مشاريع سياسية بديلة، بل تفعيل جزئي لأدوات الردع والضغط بحسب الضرورة، وترك الساحة لإعادة التوازنات الإقليمية تحت المراقبة الأمريكية الحذرة.

واشنطن لن تنخرط في إعادة الإعمار، لكنها أيضا لن تسمح بانهيار كامل للدولة السورية، ولن تفتح باب الشرعية للنظام، لكنها لن تغلقه بالكامل، فكل المؤشرات توحي بأن الملف السوري سيُدار بوصفه ورقة ضمن حسابات الشرق الأوسط الأوسع، من إيران، إلى “إسرائيل” ولبنان وتركيا، وليس كأزمة تستحق حلا بذاتها.

في الأفق المنظور، ستبقى واشنطن تُوظف سوريا كمساحة اختبار لمعادلة الاستقرار الهش، دون أن تخطو خطوة حاسمة نحو السلام أو الصدام، وفي هذه المنطقة الرمادية، سيظل السوريون وحدهم يدفعون ثمن سياسة أمريكية تحترف الانتظار أكثر مما تؤمن بالمبادرة.

1 فكرة عن “توماس براك في بيروت… دبلوماسية الظلال أم سياسة الرهانات المعلّقة؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *