في سياق المواجهة الكبرى بين روسيا والغرب، جاءت مقابلة العقيد الأميركي المتقاعد دوغلاس ماكريغور لتطرح رؤية جذرية وصادمة؛ تتجاوز أفق التحليلات العسكرية الاعتيادية تتدخل في عمق الأزمة العالمية.
ماكريغور، الذي يتكلم من موقع مطّلع ومتمرّس، لا يرى الحرب في أوكرانيا معزولة عن التيارات التاريخية والاقتصادية والسياسية التي تعصف بالنظام الغربي، فقراءة حديثه عبر تفكيك منهجي تصل إلى ربط واضح بين الاستراتيجية والجغرافيا السياسية، عبر مقارباته لانحدار القوى الإمبراطورية.
سقوط الجبهة: المعركة التي لم تعد قائمة
المقابلة ظهرت على قناة البروفيسور غلين ديزن، عالم السياسة النروجي، على اليوتوب، وحملت عنوان “حرب أوكرانيا انتهت والناتو تعب”، وكشفت خطوط صدع جيوسياسية عميقة، لا تعكس فقط تبدّلات ميدانية في خارطة الصراع الأوكراني، بل خلخلة هيكلية في النظام العالمي ذاته.
من خلال قراءته الحذرة للحرب، ومن موقعه كخبير عسكري ومستشار سابق لوزارة الدفاع الأميركية، يرسم ماكريغور صورة قاتمة ولكن دقيقة، توحي أن ما يدور على حدود أوكرانيا ليس إلا عرضا جانبيا لانهيارات داخلية في الغرب.
يتبنى ماكريغور نبرة تقريرية حاسمة عبر إقراره بأن الحرب الأوكرانية انتهت عسكريا، والمقاومة الأوكرانية انهارت، وهو لا يتحدث عن احتمال أو تقدير، بل عن واقع ميداني ملموس، ومدعوم بأمثلة من اختراقات روسية واسعة النطاق، كتلك التي حدثت في شمال بوكروفسك، حيث فُرضت سيطرة سريعة على مدن كان يُفترض أن تكون “حصوناً” للدفاع، فمنطق الانهيار يتجاوز الجبهة ليصل إلى البنية النفسية للجنود، فسؤالهم بات ببساطة “لماذا أضحي؟” في حرب خاسرة.
مقاربة ميزان القوى العالمي بعد الحرب الأوكرانية
روسيا ليست قوة غازية بل لاعب حذر في ميزان الجغرافيا
ماكريغور لا ينظر إلى الحرب من منطق الصراع فقط، بل من منطق الجغرافيا السياسية العميقة، وفي قراءته فإن روسيا لا تتحرك كقوة غازية متهورة، بل كفاعل استراتيجي يخشى الفوضى أكثر مما يطمع في الهيمنة، والتدخل الروسي في أوكرانيا ليس وليد طموح إمبريالي، بل استجابة لتغيّر ميزان القوى حولها، ورد فعل مباشر على تمدد الناتو شرقا بما يهدد أمنها التاريخي والجغرافي.
من هذا المنطلق، لا يسعى بوتين لغزو أوروبا، بل إلى تحصين ما يعتبره “الحدود الآمنة” لروسيا، وهو يخوض حربه بعقل بارد، لا بتسرع إيديولوجي، ويتقدّم بخطى مدروسة نحو نهر الدنيبر في عملية استنزاف طويلة الأمد، هدفها إفراغ أوكرانيا من طاقتها البشرية والقتالية، دون أن يقدم تنازلات مجانية أو ينخرط في مغامرات غير محسوبة.
الغرب العاجز: أمنيات بلا استراتيجية
في المقابل يرسم ماكريغور لوحة مأساوية للغرب تتجلى في غياب كامل للرؤية الاستراتيجية، حيث تظهر الأمنيات بدل التخطيط، ويهيمن التكرار لردود الأفعال على عملية اتخاذ القرار، دون مراجعة جادة أو تغيير في النهج، فلا قيادة واضحة، ولا منظور بعيد المدى، بل إدارة للأزمة بأساليب كلاسيكية تعجز عن قراءة طبيعة التحدي الجيوسياسي.
أحد أبرز الأمثلة على هذا العجز يتمثل في الدعم الأوروبي لأوكرانيا، كصواريخ “تاوروس” الألمانية، التي تبدو أكثر رمزية من كونها فاعلة، فبالنسبة لماكريغور، الغرب يخوض حربا بالوكالة دون أن يمتلك تصورا حقيقياً للخروج منها، والنتيجة استمرار الإنفاق، وتعميق الانقسام، وإطالة أمد الانهيار دون القدرة على تغييره.
الاقتصاد كجبهة موازية: حين يصبح الدولار وباء
أزمة الغرب وفق ماكريغور ليست في أوكرانيا، بل في الداخل؛ الاقتصاد الأميركي حسب رأيه ينهار من بفعل دين سيادي بلغ 37 تريليون دولار، وسوق السندات يعاني من عزوف طويل الأمد عن الاستثمار.
ضمن تعبير مجازي يقول ماكريغور: “نحن المرض صفر”، في إشارة إلى أن الدولار بات وباء ماليا، يُصدّر للعالم عبء الديون الأميركية، ويربط ماكريغور هذا الانهيار الاقتصادي بانهيار التماسك الاجتماعي الذي يتجلى بحدود مفتوحة، وهوية ممزقة، ونخب سياسية تعيش في عالم خيالي لا يمت للواقع بصلة.
الهوية مقابل العولمة: بوتين كرمز للممانعة الثقافية
لكن روسيا حسب رأيه لا تندفع في مغامرة توسعية، فبوتين، كما يصوّره، ليس “قيصرا” حالما، بل قارئ دقيق للتحولات الدولية، هو لا يريد حكم غير الروس، ولا يسعى لاحتلال كييف أو وارسو، بل يريد أن يُعترف لروسيا بهويتها ومصالحها.
هذه القراءة لا تجد صدى في عواصم الغرب، حيث “العولميون”، كما يسميهم ماكريغور، يريدون تعميم مرضهم السياسي على الجميع عبر تذويب الخصوصيات الوطنية، ومحو الهويات، وإعادة تشكيل العالم وفق قوالب أيديولوجية مصطنعة.
ألاسكا: قمة المجاملة أم بداية الاعتراف؟
حين تحدّث ماكريغور عن اللقاء المرتقب بين الرئيسين ترامب وبوتين في ألاسكا، كان يُمهّد لتحليل مبنيّ على التوقع لا الوقائع، إذ لم يكن الاجتماع حدث بعد، واليوم، بعد أن انعُقدت القمة يمكن قراءة أقواله بأثر رجعي بوصفها قراءة استشرافية دالة على فهم دقيق لموازين القوى، فالقمة لم تكن بداية سلام، بل لحظة مجاملة سياسية ذات طابع رمزي، عكست أكثر مما غيّرت.
لم تُسفر المحادثات عن اختراقات دبلوماسية واضحة، واقتصرت مخرجاتها على بيان رسمي حمّال أوجه، تكررت فيه العبارات عن “الرغبة في الاستقرار” و”فتح قنوات التواصل” دون الخوض في جوهر الصراع.
لكن اللحظة السياسية لم تخلُ من دلالات أعمق، فبوتين، بحسب ما تسرّب من فحوى اللقاء، أعاد تأكيد رؤيته بان الحرب الأوكرانية انتهت، والمؤسسة العسكرية الأوكرانية تلاشت، والنظام الدولي الذي أمدّ كييف بالدعم العسكري والمالي والسياسي يترنّح.
هكذا، تصبح قمة ألاسكا من وجهة نظر ماكريغور – حتى لو لم يقلها بعد وقوع الحدث – محطة تأكيد لا استكشاف، لحقيقة مفادها أن الغرب بات يواجه استحقاق الاعتراف بانكشافه الاستراتيجي، وأن بوتين لا يفاوض من موقع ضعف، بل من موقع المنتظر لصمت الخصم لا لتوقيعه.
ما بعد العولمة: الانهيار القادم من الداخل
يتنقل ماكريغور من خارطة أوكرانيا إلى خارطة الانهيارات الأوروبية: باريس، برلين، لندن، فجميعها تشهد تآكلا في شرعيتها السياسية، وتمرّدا ناعماً من شعوب أنهكتها سياسات ما بعد الهوية، ويتحدث عن فيينا، والبلقان، وعن سقوط العولمة كما سقطت الإمبراطوريات، في لحظات لم تتوقعها النخب، مؤكدا أن العدو ليس روسيا، بل الوهم، وأن المعركة الحقيقية ليست في خنادق دونيتسك، بل في قاعات المؤتمرات الغربية، حيث يُدار العالم على إيقاع الانكار.
مقابلة ماكريغور في جوهرها لم تكن فقط تشريحا لحرب، بل شهادة على لحظة مفصلية في التاريخ العالمي، فمن موقعه كمحارب ومفكر، يتحدث بشكل يشبه ملحمة انهيار الغرب من الداخل، ويضع الحرب الأوكرانية في سياق أوسع؛ نهاية عصر وبداية آخر، حيث لا تكفي القوة، ولا تكفي النيّات، بل يلزم وعي جغرافي–تاريخي، لفهم أين نقف، وأين يتجه هذا العالم المتعب.