كيف يغيّر بيان مجلس الأمن حول السويداء خريطة الضغط على سوريا؟

في لحظة تبدو فيها الجغرافيا السورية كرقعة شطرنج تتناوب عليها تأثيرات القوى الإقليمية والدولية، جاء بيان مجلس الأمن الأخير كأداة معايرة جديدة لموازين النفوذ، ورغم الشكل الإنساني للبيان فإنه وثيقة استراتيجية تحمل حسابات أعم عبر إعادة ضبط خطاب الأزمة، وتحديد أطر السرد الدولي بما يخدم مصالح قوى بعينها، ويفرض على دمشق خيارات ضيقة بين الانفتاح المُراقَب أو الانكفاء المعزول.

أما الأحداث المأساوية في السويداء، فكانت المدخل الذي اختاره المجلس لفتح نافذة أوسع على الملف السوري برمته، فالبيان الرئاسي الصادر في 10 أغسطس 2025، بلغة مدروسة ومفردات مُحملة بالمعاني، ينسج بين السطور خريطة ضغط تتقاطع فيها اعتبارات القانون الإنساني مع تحذيرات الأمن الإقليمي، فالنصوص الدولية لا تُقرأ كسجلات باردة، بل كخرائط نفوذ مرسومة بالحبر ذاته الذي خطّت به التحالفات والصراعات.

اللغة كأداة ضغط

تتسم صياغة البيان باستخدام مفردات ذات بعد أخلاقي مثل: “قلق عميق”، “أدان بأشد العبارات”، و”موثوقة، سريعة، شفافة، وغير منحازة”، وهي التعابير ليست عفوية، بل تمثل اختيارا دقيقاً يرمي إلى تحميل الأطراف، وفي مقدمتها الحكومة السورية، مسؤولية معنوية وقانونية؛ مع تفادي الانزلاق إلى لغة قرارات ملزمة تحت الفصل السابع.

لم يكتفِ المجلس بالإدانة العامة للانتهاكات، بل أرفقها بتوصيف كمي للأزمة الإنسانية، محدداً رقم 192,000  مهجّر، ما يضفي على البيان مصداقية إحصائية ويزيد من قدرته على التأثير في أي نقاش أو مواجهة دبلوماسية لاحقة.

ويكتسب البيان بعدا إضافيا من خلال اختياره الإشارة إلى “الحكومة السورية المؤقتة” بدلا من المصطلح الأكثر تداولا في الأدبيات الأممية “الحكومة الانتقالية”، والوصف يحمل دلالات سياسية واضحة، حيث يعكس موقفا ضمنيا من شرعية السلطة القائمة، ويضع إطارا زمنيا أكثر تحديداً لدور الحكومة المعنية، ويؤشر بأنها صيغة مؤقتة بانتظار تسوية سياسية أوسع، فالبيان يتحول إلى أداة ضغط سياسي مزدوجة فيحدد المسؤولية، ويعيد رسم الخطاب الدولي حول الأطراف الفاعلة في المشهد السوري.

رسائل مختلفة

الدعوة الصريحة إلى تحقيقات “موثوقة” و”متوافقة مع المعايير الدولية” ليست مجرد توصية؛ إنها إشارة إلى أن المجتمع الدولي لم يعد يكتفي بوعود داخلية، بل يريد آليات يمكن التحقق منها من الخارج، ما يضع دمشق أمام معادلة حساسة، فإما القبول بمزيد من الشفافية عبر انفتاح أكبر على الرقابة الدولية، أو المخاطرة بزيادة العزلة السياسية وتوسيع مبررات العقوبات.

كما لا يخلو البيان من إدراج لافت لقضية “المقاتلين الأجانب” وربطه بالتقرير السادس والثلاثين لفريق الدعم التحليلي، هذه الإشارة التي تبدو على الهامش، هي في الواقع محاولة لإعادة إدخال سوريا ضمن سردية الحرب على الإرهاب، بما يتيح تبرير استمرار أو حتى تعزيز التدخلات الأمنية والعسكرية الإقليمية، خصوصا من دول تتحدث عن التهديدات العابرة للحدود.

البُعد الإنساني كسلاح دبلوماسي

التركيز على حماية العاملين الطبيين والإنسانيين يعيد إلى الأذهان الجدل الدولي حول الحصار والهجمات على المستشفيات في مناطق النزاع، فيمارس البيان وظيفة مزدوجة: أخلاقية، عبر التأكيد على القيم الإنسانية، وسياسية، عبر تهيئة الرأي العام الدولي لقبول إجراءات أشد إذا استمرت الانتهاكات، ومن منظور العلاقات الدولية، اللغة الإنسانية غالبا ما تكون حصان طروادة لفرض سياسات أكثر حزماً.

قرار 2254 كإطار تفاوضي

إعادة التأكيد على القرار 2254، الذي يمثل مرجعية الحل السياسي في سوريا، يكشف عن تصميم دولي على إبقاء الملف السوري تحت وصاية الأمم المتحدة، في مواجهة المسارات الموازية التي حاولت بعض القوى فرضها، سواء عبر مسار أستانا أو عبر اتفاقيات ثنائية، من وجهة نظر دمشق، هذا تجديد للضغط عليها للانخراط في عملية سياسية شاملة لا تستطيع التحكم في كل تفاصيلها.

يعكس التشديد على القرار 2254 محاولة المجتمع الدولي إعادة ضبط الإطار التفاوضي على أسس أممية، بما يحدّ من قدرة الفاعلين الإقليميين على صياغة ترتيبات خاصة تُقصي أطرافاً سورية أو تقلص دور الأمم المتحدة، فالبيان يوحي بأن أي مسار تفاوضي خارج المظلة الأممية لن يحظى بشرعية دولية كاملة، الأمر الذي يضعف أوراق الضغط التي تعتمد عليها دمشق في مراهناتها على تفاهمات ثنائية أو إقليمية.

أثر البيان على علاقات سوريا الدولية

البيان، وإن لم يحمل قوة إلزامية قانونية، إلا أنه يضع دمشق في مرمى تقييم دولي متجدد، ويعطي خصومها في الساحة الإقليمية والعالمية مادة سياسية، فالدول الغربية يمكن أن تستند إلى صياغاته لتبرير استمرار العقوبات أو منع إعادة الإعمار، وتستطيع بعض الدول الإقليمية استخدامه كورقة في مساوماتها مع دمشق.

على الجانب الآخر، ستجد دمشق في هذا البيان دافعا لتعزيز تحالفاتها مع قوى دولية غير غربية؛ يمكن أن تقدم لها مظلة سياسية واقتصادية بديلة، لكن هذا التوجه، وإن كان يوفر حماية آنية، فإنه يعمّق الانقسام بين سوريا والغرب، ويجعل أي تقارب مستقبلي أكثر صعوبة.

حدود التأثير

البيانات الرئاسية، بخلاف القرارات الملزمة، لا تُنشئ التزامات قانونية مباشرة، لكنها قادرة على إعادة صياغة السردية الدولية، واللغة التي استخدمها مجلس الأمن هذه المرة تجعل من الصعب على أي طرف تجاهل القضية، ففي علم السياسة، هذه البيانات تشبه خطوطا مرسومة على الرمال؛ ليست حواجز صلبة، لكنها مؤشرات واضحة على المواقع التي يمكن أن تتحول مستقبلا إلى جدران ثابتة.

واختيار السويداء كنقطة تركيز ليس بريئا؛ فالمحافظة التي ظلت لسنوات نسبيا خارج دائرة العنف الشديد، أصبحت فجأة مركز اهتمام عالمي، ما يعيد تعريف خريطة الصراع السوري، ويفتح الباب أمام مقاربات جديدة، حيث يُستخدم ملف منطقة محددة كمدخل لإعادة فتح النقاش حول مجمل الأزمة السورية.

أثر بعيد المدى

البيانات الدولية ليست مجرد ردود فعل على أحداث راهنة، بل حلقات في سلسلة طويلة من إعادة رسم النفوذ، وبيان مجلس الأمن حول السويداء لا يغير موازين القوى على الأرض، لكنه يسهم في تشكيل المناخ السياسي الذي سيتقرر فيه مستقبل سوريا خلال السنوات المقبلة، فالآلية الدولية عبر هذه البيانات المتراكمة تؤسس للشرعية أو تنزعها، وتحدد من يُستمع إليه في طاولة التفاوض ومن يُقصى.

البيان خريطة ضغط، ومؤشر على أن الملف السوري ما زال قادرا على استدعاء انتباه العالم، ولكن بشروط جديدة ولغة تبدو إنسانية، لكنها مرسومة بحبر الجغرافيا السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *