أصدر مجلس الأمن الدولي في 5 تشرين الثاني 2025، قرارا يقضي بشطب اسمي أحمد الشرع وأنس خطاب من قائمة عقوبات تنظيمي داعش والقاعدة، في خطوة تبدو للوهلة الأولى إجرائية ضمن آليات لجنة العقوبات.
القراءة المتأنية للنص تكشف عن تحول أكثر عمقا في مقاربة المجلس للملف السوري، بما يحاكي عودة تدريجية إلى القرار 2254 باعتباره الإطار المرجعي الوحيد المقبول دوليا للحل السياسي، مع إدخال عنصر ردعي جديد يرتبط بالبند السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
من “الشرع” إلى الشرعية: إشارة رمزية داخل منظومة العقوبات
لا يمكن النظر إلى رفع اسمَي الشرع وخطاب بمعزل عن الرمزية التي يحملها القرار، فالشرع، سواء كرمز سياسي سابق أو كاسم يمثل جناحا من “المنظومة القديمة”، يُستعاد اليوم في سياق مختلف، وكإشارة إلى إمكانية إعادة دمج شخصيات أو تيارات سورية سابقة في مشروع وطني جامع، شرط أن تتوافق مع بنود القرار الأممي، وهذه الرمزية لا تُقاس بوزن الأفراد أنفسهم، بل بمدى استعداد النظام الدولي لتخفيف أدوات العزل وإعادة تعريف من يُعتبر “خارج الشرعية”.
في المقابل، فإن النص لم يأتِ استجابة لطلب سياسي من السلطات في دمشق، بل كجزء من إعادة توازن بين مقاربة الردع والانخراط، فمجلس الأمن، بإزالته الاسمين، أراد أن يُظهر أن العقوبات ليست أبدية، وأن نظام الجزاءات يمكن أن يكون ديناميكيا عندما يُظهر الطرف المستهدف درجة من الامتثال أو الانفتاح السياسي، الذي يتوافق مع الإرادة الدولية، وهذا ينسجم مع تطور تفكير الأمم المتحدة بعد عقدين من الاعتماد المفرط على العقوبات كأداة هندسة سلوك، نحو ما يُعرف بـ”الامتثال المشروط” (conditional compliance).
قرار تحت الفصل السابع: توازن العصا والجزرة
القرار الجديد صدر بموجب الفصل السابع، ما يعني أن المجلس احتفظ لنفسه بسلطة إعادة فرض العقوبات أو اللجوء إلى إجراءات قسرية في حال أخلّت سلطات دمشق بالتزاماتها، فرفع الاسمين لا يمثل مكافأة نهائية، بل مرحلة اختبار سياسي وأمني، ويمكن النظر إلى القرار كصفقة دقيقة بين الإعفاء والتهديد، وانفتاح محدود مشروط بالالتزام الكامل ببنود القرار 2254 وسائر الالتزامات الإنسانية والسياسية.
الأكثر دلالة أن النص يربط رفع الاسمين بجملة طويلة من التعهدات التي تعيد تعريف التزامات الدولة السورية، وتشمل المساعدات الإنسانية، مكافحة الإرهاب والمخدرات، العدالة الانتقالية، إزالة الأسلحة الكيميائية، والأهم دعم عملية سياسية “يقودها ويملكها السوريون أنفسهم”.
هذا الربط بين ملف عقوبات فردية ومصفوفة التزامات وطنية يشير إلى تحول في فلسفة العقوبات نفسها من معاقبة الأفراد إلى تحفيز السلوك المؤسسي للدولة.
وبذلك، يصبح القرار أقرب إلى “آلية اختبار نوايا” منه إلى تسوية، فإذا أخلّت سلطات دمشق بالتزاماتها، يمكن تفعيل البند السابع بما يسمح بفرض إجراءات جديدة أو حتى إجراءات عسكرية محدودة النطاق من التحالف الدولي، أي أن المجلس وضع البلاد عمليا ضمن نظام رقابة دولية ناعمة، فلا هو تدخل صريح، ولا رفع مطلق للعقوبات.
البعد الأوروبي: الواقعية بدل المثالية
من زاوية أوروبية يعكس القرار عودة تدريجية إلى الواقعية البنّاءة (Constructive Realism) في التعامل مع سوريا، فبعد سنوات من الجمود بسبب الانقسام بين موسكو وواشنطن، أصبح من الواضح أن سياسة العزل الشامل لم تنتج استقرارا ولا تغييرا، وأن المقاربة البراغماتية التي تدمج “الالتزام المشروط” بالرقابة الصارمة تكون أكثر جدوى.
الاتحاد الأوروبي، الذي يعاني من تداعيات الهجرة والمخدرات والتهديدات الأمنية القادمة من الشرق، يرى في هذا القرار فرصة لتفعيل أدوات الضغط القانونية من دون الانخراط في مواجهة عسكرية، أي أن رفع الاسمين ليس مجرد بادرة إنسانية، بل جزء من اختبار أوسع لقدرة النظام السوري على الامتثال السياسي، بما يمهّد لمراجعة تدريجية للعقوبات الاقتصادية الأوروبية.
هذا النمط من “الاختبار الهادئ” يشبه ما جرى مع طهران بعد اتفاق 2015 النووي، من خلال خطوات صغيرة قابلة للرجوع عنها، لكنها تفتح نافذة حوار محدودة ضمن رقابة دولية صارمة.
التداعيات على التوازن الإقليمي
إقليميا، يُتوقع أن يلقى القرار قراءتين متناقضتين، فـروسيا تعتبره مكسبا رمزيا لسلطات دمشق، يثبت أن النظام لا يزال جزءا من المعادلة الدولية، ويعزز روايتها بأن “التعافي السياسي التدريجي” هو الطريق الأمثل، لكنها في الوقت نفسه تدرك أن البند السابع يمنح الغرب أداة ردع قانونية جديدة يمكن استخدامها إذا تجاوزت سلطات دمشق الخطوط الحمراء.
أما الولايات المتحدة فستتعامل مع القرار بوصفه آلية ضبطٍ من دون التزامٍ مباشر، فهو يتيح للبيت الأبيض المحافظة على “الضغط المعياري” (normative pressure) عبر مجلس الأمن، دون الحاجة لتورط عسكري.
وبذلك يصبح القرار نقطة التقاء نادرة بين موسكو وواشنطن، وكلاهما يريد تثبيت خطوط نفوذ دون انفجار جديد.
من جانب آخر، الدول العربية التي أعادت فتح قنواتها مع سلطات دمشق ستقرأ في القرار إشارة على تماسك الشرعية الدولية حول مسار 2254، ما يمنحها غطاء سياسيا للاستمرار في سياسة “العودة المشروطة” إلى الحضن العربي. لكنه أيضا يربط تلك العودة بآليات مراقبة أممية دقيقة، خصوصا في ملفات المساعدات واللاجئين والعدالة الانتقالية.
بين 2254 و2761: عودة المرجعية الدولية
الأهمية الجوهرية للقرار تكمن في إعادة التأكيد الصريح على القرار 2254 باعتباره الإطار الناظم للعملية السياسية السورية، فعلى مدى الأعوام الماضية، تراجعت الإشارة إلى 2254 في معظم قرارات مجلس الأمن أو بياناته، لصالح مقاربات أمنية وإنسانية جزئية، أما اليوم، فإن عودة النص إليه بوضوح، مع تحديد التزامات متعددة ومحددة، تعني إعادة تموضع الأممية في قلب المشهد السوري.
القرار يمثل “لحظة انعكاس” (Inflection Point) في السياسة الدولية تجاه سوريا، ولم تعد المعادلة “تغيير النظام أو العزلة الكاملة”، بل تحويل الدولة إلى فاعل مسؤول تحت رقابة دولية، أي إدماج تدريجي مشروط ضمن النظام العالمي.
وهذا يتماشى مع مفهوم “الاستقرار القسري” وإرساء توازن لا يقوم على السلام الكامل، بل على ضبط السلوك ضمن حدود مقبولة دوليا.
التحديات المقبلة: بين الالتزام والمراقبة
رغم ما يحمله القرار من فرص، يبقى تطبيقه رهن ثلاث معادلات معقدة:
- المعادل الداخلي وقدرة النظام السوري الجديد على ترجمة الالتزامات إلى أفعال، في ظل ضعف البنية الإدارية والاقتصادية، واستمرار النزاع في الأطراف.
- المعادل الدولي ومدى استعداد القوى الكبرى للتنسيق في آليات المراقبة دون تسييسها.
- المعادل الإقليمي وقدرة الدول المجاورة على دعم المسار دون استغلاله في صراعات جانبية، خصوصا ملفي اللاجئين والمخدرات.
في غياب توازن بين هذه العناصر يتحول القرار إلى مجرد “هدنة قانونية” قصيرة الأجل، تفتح الباب لقرارات أكثر حدة لاحقا إذا لم يتحقق الامتثال.
بين الرمزية والوظيفة
يبدو شطب اسمين من قائمة الإرهاب تفصيلا تقنيا، لكنه في ميزان السياسة الدولية يوازي إعلانا عن اختبار جديد للنظام السوري الجديد لمدى قدرته على التحول من كيان مراقَب إلى شريك مشروط في النظام الدولي.
إن قراءة القرار تظهر أنه لا يتحدث عن أشخاص، بل عن نموذج جديد للعلاقة بين الدولة والمجتمع الدولي، حيث تُكافأ الخطوات الجزئية بالاعتراف الجزئي، ويُقابل الإخلال بالالتزامات بعقوبات فورية.
مجلس الأمن لم يمنح سلطات دمشق صك براءة، بل أرسل إنذارا مؤدبا بصيغة قانونية بأن “الطريق إلى التطبيع يمر عبر الالتزام لا عبر الإنهاك”.
وما بين رفع الأسماء واحتمال العودة إلى البند السابع، يبقى القرار في جوهره تذكيرا بأن الشرعية ليست هدية، بل عملية مستمرة من التفاوض بين القوة والمسؤولية وتحقيق الرغبات الدولية.
رفع الشرع وخطاب من لوائح الإرهاب
قراءة في التحول الرمزي لمعادلة القوة داخل الملف السوري
نظرة عامة على القرار
أصدر مجلس الأمن الدولي في 5 تشرين الثاني 2025، قراراً يقضي بشطب اسمي أحمد الشرع وأنس خطاب من قائمة عقوبات تنظيمي داعش والقاعدة. هذه الخطوة التي تبدو إجرائية تخفي تحولاً أكثر عمقاً في مقاربة المجلس للملف السوري.
التحول في فلسفة العقوبات
يتجه مجلس الأمن من خلال هذا القرار نحو نموذج “الامتثال المشروط” (Conditional Compliance) الذي يجمع بين الردع والانخراط، بدلاً من الاعتماد المفرط على العقوبات كأداة وحيدة.
البعد الرمزي
رفع اسمي الشرع وخطاب يمثل إشارة رمزية لإمكانية إعادة دمج شخصيات أو تيارات سورية سابقة في مشروع وطني جامع، شرط التوافق مع بنود القرار الأممي.
آلية الاختبار
القرار يمثل آلية لاختبار نوايا النظام السوري، حيث يمكن إعادة فرض العقوبات أو اللجوء إلى إجراءات قسرية في حال الإخلال بالالتزامات.
العودة إلى القرار 2254
يعيد القرار التأكيد على القرار 2254 كإطار ناظم للعملية السياسية السورية، بعد سنوات من التراجع في الإشارة إليه.
مواقف الأطراف الدولية من القرار
التداعيات المتوقعة
على المستوى الداخلي
قدرة النظام السوري على ترجمة الالتزامات إلى أفعال في ظل ضعف البنية الإدارية والاقتصادية.
على المستوى الدولي
استعداد القوى الكبرى للتنسيق في آليات المراقبة دون تسييسها.
على المستوى الإقليمي
قدرة الدول المجاورة على دعم المسار دون استغلاله في صراعات جانبية.
الخلاصة: بين الرمزية والوظيفة
قرار شطب الاسمين لا يتحدث عن أشخاص، بل عن نموذج جديد للعلاقة بين الدولة والمجتمع الدولي، حيث تُكافأ الخطوات الجزئية بالاعتراف الجزئي، ويُقابل الإخلال بالالتزامات بعقوبات فورية. مجلس الأمن لم يمنح دمشق صك براءة، بل أرسل إنذاراً مؤدباً بصيغة قانونية بأن “الطريق إلى التطبيع يمر عبر الالتزام لا عبر الإنهاك”.

