في بيان أممي صدر بتاريخ 21 آب 2025، وجّه عدد من الخبراء الأمميين المستقلين تحذيرا حادا بشأن موجة الهجمات المسلحة التي استهدفت المجتمعات الدرزية في محافظة السويداء، مسلّطين الضوء على سلسلة من الانتهاكات التي وصفت بأنها “ممنهجة” و”مدفوعة بالكراهية الطائفية”، بلغت حد الجرائم المحتملة ضد الإنسانية.
البيان، الذي يتّسم بلغته الصريحة وتفاصيله المروعة، يشكّل وثيقة عالية القيمة من الناحية التحليلية، ليس فقط لما يرِد فيه من وقائع، بل لما يكشفه من ديناميكيات جديدة في مسار النزاع السوري، وتحوّلات مقلقة في سلوك الفاعلين المحليين والإقليميين.
البنية السردية للبيان: من التوصيف إلى الإدانة
اعتمد الخبراء في بيانهم على تصعيد لغوي تدريجي محسوب، بدأ باستخدام مصطلحات تبدو للوهلة الأولى تقليدية في الخطاب الأممي، مثل “القلق العميق” و”الانتهاكات المقلقة”، وهي تعبيرات تُستخدم عادة في سياقات تتطلب الحذر الدبلوماسي، غير أن هذا الخيار في افتتاح البيان لا يخلو من دلالة، إذ يعكس محاولة مبدئية لإثبات التزام الخبراء بلغة الحياد المؤسسي، قبل أن ينتقلوا تدريجيا إلى توصيفات أكثر جرأة ووضوحا، ثم سريعا إلى استخدام توصيفات صريحة لجرائم القتل خارج القانون، والاغتصاب، والإخفاء القسري، مشيرا إلى أن هذه الأفعال تمثّل نموذجا لما وصفه بـ”الفشل المنهجي في حماية الأقليات”.
هذا التصعيد اللغوي لا يمكن قراءته على أنه مجرد تطور تعبيري؛ بل هو جزء من بناء سردي مدروس يهدف إلى نقل البيان من مربع الرصد الحقوقي إلى فضاء الإدانة السياسية الصريحة، ويقصد به أكثر من التحذير، فهو يسعى إلى خلق أثر دبلوماسي واضح، يحرج الجهات المتورطة أو المتواطئة بالصمت، ويدفع بالملف إلى واجهة الاهتمام الدولي، فلا يكتفي البيان برصد الانتهاكات، بل يلوّح بإمكان استخدامه لاحقا كوثيقة مرجعية في سياقات تحقيق دولية، أو حتى في قاعات المحاكم الجنائية.
البُعد الطائفي: استهداف ممنهج أم تفكك اجتماعي؟
أحد أبرز ما يلفت الانتباه في البيان هو الربط الواضح والمتعمَّد بين الطابع الطائفي للهجمات على المجتمعات الدرزية، وبين الدور التحريضي الذي لعبته منصات الإعلام التقليدي ووسائل التواصل الاجتماعي في تأجيج الكراهية، ورصد استخداما ممنهجا للخطاب الديني المتطرف، تم فيه تصوير الدروز على أنهم “خونة” و”كفّار” يجب قتلهم، والترويج لممارسات مهينة تحمل رمزية عالية، كالدعوة إلى حلق شوارب رجال الدين، وهو فعل يُقصد به النيل من الكرامة الدينية والاجتماعية، وأشار إلى دعوات لاستعباد النساء الدرزيات، في خطاب يعيد إلى الذاكرة أنماط التعبئة الطائفية التي رافقت جرائم الإبادة الجماعية في حالات مثل رواندا والبوسنة.
الرسم التفاعلي
هذا التوصيف لا يحمل فقط بعدا حقوقيا، بل يفتح الباب لتساؤلات شائكة حول مسؤولية القوى المسيطرة على الأرض، لا سيما سلطات الأمر الواقع في شمال سوريا، فإلى أي مدى تُعد هذه السلطات مسؤولة عن ضبط الخطاب الإعلامي في المناطق التي تخضع لسيطرتها؟ وهل يشكّل صمتها أو تواطؤها الضمني عاملا في شرعنة هذا التحريض الطائفي؟ هذه الأسئلة تكتسب أهمية خاصة في ظل ما يُنقل عن ضلوع بعض الجماعات المسلحة المحسوبة على تلك السلطات في ارتكاب أو تسهيل هذه الانتهاكات، وهو ما يضعها أمام اختبار قانوني وأخلاقي عسير مستقبلا.
مسؤولية “السلطات المؤقتة”: بين التواطؤ والعجز
يشير البيان إلى ما وصفه بـ”تقارير موثوقة” تؤكد تورط مجموعات مسلحة تابعة للسلطات السورية المؤقتة في تنفيذ بعض هذه الهجمات، وهذا الاتهام، وإن لم يكن مباشرا، يشكّل تحولا بالغ الأهمية في خطاب الأمم المتحدة، التي غالبا ما تُحجم عن توجيه اتهامات صريحة للجهات السورية المعارضة.
الاتهام هنا لا يقتصر على مستوى الإدانة الأخلاقية المعتادة التي تميز الخطاب الأممي؛ بل يتجاوز ذلك نحو منطقة قانونية شديدة الحساسية، تضع سلطات الأمر الواقع تحت مجهر المساءلة الدولية، فحين يُشار، ولو ضمنيا، إلى تورط مجموعات مسلحة تابعة لهذه السلطات في تنفيذ هجمات ضد المدنيين، أو في التستر عليها، فإن هذا التوصيف يرقى إلى ما يُعرف في القانون الدولي الإنساني بـ”الضلوع غير المباشر” أو “التواطؤ بالإهمال”، ما يعني أن المسؤولية لا تقتصر على الفاعلين الميدانيين، بل تمتد لتشمل قيادات سياسية وعسكرية في تلك الكيانات.
هذا الاتهام يفتح الباب أمام محاسبة قانونية محتملة، سواء عبر المحاكم الدولية المختصة مثل المحكمة الجنائية الدولية (ICC)، أو من خلال آليات بديلة مثل “الآلية الدولية المحايدة والمستقلة” (IIIM) التابعة للأمم المتحدة التي جرى إنشاؤها خصيصا لجمع الأدلة وتحليلها؛ تمهيدا لملاحقات قضائية مستقبلية في سياق النزاع السوري.
ويثير ذلك احتمال توثيق هذه الانتهاكات بوصفها جزءا من نمط متكرر، ما يدفع ببعض الأطراف الدولية إلى المطالبة بفرض عقوبات، أو حتى التوصية بإحالة الملف إلى مجلس الأمن، فالبيان ليس مجرد توثيق لحادثة مأساوية، بل يُعد من منظور قانوني مقدمة محتملة لبناء ملف اتهامي ضد فاعلين محددين بالاسم والصفة في مرحلة قادمة.
الاغتصاب كسلاح حرب: ما بعد الإدانة
إن استخدام الاغتصاب والعنف الجنسي، كما ورد في البيان، ليس تفصيلا عابرا، بل مؤشر على تحوّل مقلق في أدوات القمع الطائفي، فذكر الخبراء ثلاث حالات موثقة تم فيها اغتصاب نساء درزيات قبل إعدامهن، فضلاً عن اختفاء أكثر من 100 امرأة وفتاة، ما يعزز فرضية وجود نمط سلوكي ممنهج.
البيان لا يكتفي بالإدانة، بل يُبرز فشل السلطات في إجراء أي تحقيقات مستقلة أو شفافة، وهو ما يرسّخ مناخ الإفلات من العقاب ويهدد بانتشار العنف الجنسي كأداة صراع.
النزوح القسري وانهيار البنية التحتية
بلغ عدد النازحين، وفقا للبيان، نحو 192 ألف شخص، ينتشرون في محافظات السويداء ودرعا وحمص، وسط ظروف إنسانية بالغة السوء، فالخدمات منعدمة، والمياه ملوثة، وجثث غير مدفونة، ونقص حاد في الغذاء والدواء، هذا الوصف لا يرسم فقط خريطة مأساة إنسانية، بل يُفصح عن هشاشة غير مسبوقة في قدرة المؤسسات المحلية على الاستجابة.
هنا يتحول البيان إلى وثيقة تحليلية للوضع الإنساني المتدهور، ويضع السلطات المحلية والدولية أمام اختبار حقيقي لقدرتها على تفعيل آليات الإغاثة وتجاوز المعوقات السياسية.
ازدواجية المعايير الدولية؟
من اللافت أن البيان لم يشر إلى دور مباشر لـ”إسرائيل” سوى في إطار الإشارة إلى الضربات الجوية التي ساهمت في تفاقم الأوضاع، وهذه الإشارة، وإن كانت عابرة، تطرح تساؤلات حول موقف الأمم المتحدة من تدخلات إقليمية تنعكس مباشرة على واقع المجتمعات المحلية، لكنها تغيب غالبا عن النصوص الأممية تحت ذرائع تقنية أو سياسية.
قراءة استشرافية: هل يتغير شيء؟
رغم ما يحمله البيان من لهجة حازمة، إلا أن فعاليته على الأرض تبقى رهينة قدرة الأمم المتحدة على تحويل توصياته إلى أدوات ضغط ملموسة، سواء عبر مجلس حقوق الإنسان أو عبر المجتمع الدولي، فبدون مساءلة واضحة، تبقى البيانات مجرّد وثائق أرشيفية.
يشكّل هذا البيان وثيقة نادرة من حيث وضوحها، شجاعتها، وجرأتها في الربط بين الانتهاكات والفاعل السياسي، لكن قيمته الحقيقية في القدرة على تحويله كأداة للتغيير، أم سيُطوى كغيره من التقارير الحقوقية في أرشيف الأمم.
تبقى السويداء جرحا مفتوحا في جسد الجغرافيا السورية، تنزف بصمت على مرأى العالم.