رفع عقوبات “قيصر”… هل انتهى زمن العقاب وبدأت براغماتية واشنطن تجاه دمشق؟

إعلان الخارجية الأمريكية دعم إدارة ترامب لرفع عقوبات قيصر ليس حدثا بروتوكوليا، بل اعتراف ضمني بأن مرحلة العقوبات فقدت صلاحيتها كأداة نفوذ في سوريا.

بعد خمس سنوات من العقوبات التي خنقت الاقتصاد السوري دون أن تُحدث تحولا سياسيا حقيقيً، أدركت  واشنطن أن الاقتصاد لا يمكن أن يكون أداة فاعلة لتحصل على مكاسب سياسية إذا أصبح وسيلة للعقاب الجماعي.

العقوبات كاقتصاد إخفاق

منذ دخول قانون قيصر حيز التنفيذ في منتصف عام 2020، دخل الاقتصاد السوري مرحلة من الانكماش الحاد:

  • انخفض الناتج المحلي الإجمالي بنحو60% مقارنة بما قبل 2011.
  • فقدت الليرة السورية أكثر من 95%من قيمتها.
  • تجاوزت معدلات الفقر 90% وفق تقديرات الأمم المتحدة.

الأهم ما بدأت واشنطن تراه اليوم بأن العقوبات لم تضعف السلطة السياسية بقدر ما دمّرت البنية الاقتصادية المنتجة، من الزراعة إلى الدواء إلى الطاقة، وهذا يعني أن السوق لم “يصحح نفسه” بل انهار في غياب الدولة، وأن التكلفة الاجتماعية للعقوبات تجاوزت أي مكاسب سياسية محتملة.

لم يعد المشهد الراهن اعترافا بفشل العقوبات بقدر ما هو إقرار بأن التغيير في بنية النظام السياسي السوري تحقق بفعل التحولات الدولية لا بفعل الحصار الاقتصادي.
فالعقوبات لم تفتح الباب أمام تقديم تنازلات سياسية، بل أسست لاقتصاد هشّ، فيما باتت واشنطن اليوم تحاول العودة إلى الساحة السورية من بوابة “الانفتاح”، بعدما خسرت تأثيرها في زمن “العقاب”.

المنعطف الأميركي: من الهندسة إلى الترميم

البيان الأمريكي الصادر صباح 1 تشرين الثاني جاء بلغة غير مسبوقة منذ أكثر من عقد: “رفع العقوبات عن سوريا يسهم في هزيمة تنظيم الدولة ويمنح السوريين فرصة لمستقبل أفضل”.

هذا التحول اللغوي من خطاب “العقاب” إلى خطاب “الفرصة” ليس في الصياغة فقط، بل نابع من قراءة استراتيجية جديدة داخل واشنطن؛ ترى أن الانكماش الاقتصادي في سوريا بات يهدد الأمن الإقليمي نفسه.

المنطق الذي يحكم السياسة الأمريكية يستند إلى قاعدة اقتصادية واضحة؛ فحين تتسع الفجوة الاقتصادية، لا تعود القوة قادرة على فرض الاستقرار؛ لأن انعدام الأمل يتحول إلى انعدام للنظام، فواشنطن لا ترفع العقوبات حباً بالسوريين، بل خوفا من فشل شامل في بنية الدولة السورية يفتح الباب أمام الفوضى والتنظيمات المتطرفة المنشرة بالفعل في أرجاء سوريا.
هذا ما يفسّر الربط المباشر بين رفع العقوبات و”هزيمة تنظيم الدولة”، وهي عبارة لم تظهر صدفة في البيان الأمريكي.

اقتصاد ما بعد العقوبات: عودة رأس المال أم إعادة تدوير الفقر؟

ترحّب الخارجية الأمريكية اليوم بـ”الاستثمار والمشاركة في سوريا بما يدعم قيام دولة يسودها السلام والازدهار”، لكن ما نوع الاستثمار الممكن في اقتصاد يفتقر إلى الكهرباء، ويعاني من شح الوقود، ومن نظام مصرفي شبه معزول دوليا؟

من الناحية الواقعية، رفع العقوبات، إن تم فعليا، سيعيد فتح الباب أمام:

  1. الشركات الإقليمية (خصوصا اللبنانية والأردنية والإماراتية) للدخول في مشاريع الطاقة والإعمار.
  2. القطاع الخاص السوري في الخارج، الذي يملك رؤوس أموال راكدة منذ سنوات في أنقرة ودبي والقاهرة.
  3. المنظمات الدولية التي جُمّدت برامجها التنموية بسبب القيود المصرفية.

غير أن الاختبار الحقيقي سيكون فيما إذا كانت الحكومة السورية ستتعامل مع هذه الفرصة كمنصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي كما يرسمونه، أو كأداة لإعادة إنتاج اقتصاد الريع السياسي.

التجارب المماثلة في العراق ولبنان أظهرت أن تدفق المال الخارجي من دون إصلاح مؤسساتي يُنتج “انتعاشا غير عادل”، ونموا على الورق، لكنه لا يُترجم إلى رفاه عام، بل إلى مزيد من اللامساواة.

البعد الجيوسياسي: الاقتصاد كدبلوماسية جديدة

قرار رفع العقوبات لا يمكن فصله عن شبكة التطورات المتزامنة في اليوم ذاته:

  • الإعلان عن زيارة الرئيس الانتقال أحمد الشرع إلى واشنطن تمهيدا لانضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش.
  • تسريبات عن جولة خامسة من المفاوضات بين السلطة في دمشق وتل أبيب حول اتفاق أمني حدودي قبل نهاية العام.
  • تصريحات روسية تؤكد استمرار الشراكة الاقتصادية مع السلطة في دمشق.
  • دعوة لبنانية إلى تسريع ترسيم الحدود مع سوريا.

هذه المؤشرات مجتمعة تعني أن الملف السوري انتقل من خانة “الإدارة بالعقوبات” إلى “الدمج الانتقائي”، فواشنطن لا تريد إعادة بناء سوريا بالكامل، لكنها تسعى إلى احتوائها داخل منظومة أمنية جديدة تتضمن “إسرائيل” وتركيا وربما الخليج، وتقلص النفوذ الروسي تدريجيا عبر الاقتصاد بدل الحرب.

هذا النهج في استخدام السوق أداة للتأثير السياسي يعبر عن استخدام الاقتصاد كوسيلة للهيمنة لا كأداة للتنمية، ويتحول إلى شكل آخر من الحرب، فرفع العقوبات ليس تراجعا عن الحرب، بل تحولا في شكلها من “خنق اقتصادي” إلى “احتواء استثماري”.

المفارقة السورية: الداخل المنهك في مواجهة الخارج المتحمس

بينما يتحدث المسؤولون الأمريكيون عن “السلام والازدهار”، يعيش الداخل السوري حالة انقسام حاد:

  • السويداء تشهد شللا اقتصاديا بعد توقف الأفران ومنع القوافل الغذائية.
  • حمص تسجّل حوادث اغتيال واختطاف متكررة.
  • القنيطرة تواجه توغلات “إسرائيلية” متزايدة.
  • مخيم اليرموك في دمشق ما زال تحت أنقاض أبنية متهالكة انهارت دون إصابات لكنها تذكّر بذاكرة الدمار.
  • وفي الجامعات، تُلغى مادة “الثقافة القومية” لتُستبدل بتوسيع مادة “التربية الإسلامية” ضمن المفاضلة، في مشهد يُظهر انزياحا ثقافيا ودينيا غير بسيط.

هذه الوقائع اليومية تؤكد أن المشكلة السورية ليست فقط في غياب الاستثمار، بل في غياب التوازن الاجتماعي والسياسي، فحتى لو تدفق رأس المال الخارجي، فإن مجتمعا يعيش بلا خبز في الجنوب وبلا كهرباء في كافة المناطق، لن ينتج استقرارا مستداما، فالأسواق تحتاج إلى مؤسسات، والمؤسسات تحتاج إلى ثقة، والثقة لا تولد في فراغٍ من العدالة.

واشنطن والسلطة في دمشق: براغماتية الضرورة لا مصالحة القيم

زيارة الشرع المرتقبة إلى واشنطن، والحديث عن مفاوضات أمنية مع “إسرائيل”، لا تعني بالضرورة أن سوريا تدخل مرحلة تطبيع شامل، هو تعبير عن براغماتية الضرورة، فواشنطن تبحث عن استقرار ميداني يحمي حدود “إسرائيل” ويمنع تجدد موجات الهجرة، والسلطة في دمشق تبحث عن شرعية ومتنفس اقتصادي يعيد تشغيل عجلة الدولة.

هذا التقاطع بين الحاجة الأمنية الأمريكية والحاجة الاقتصادية السورية يخلق مساحة مؤقتة من “الواقعية المتبادلة”، لكنها لا ترقى إلى مصالحة قيمية أو سياسية حقيقية.
فغياب أي حديث عن العدالة الانتقالية، أو إعادة اللاجئين، أو إصلاحات دستورية، يجعل رفع العقوبات تحولا تقنيا لا أخلاقيا.

إن ما يجري ليس انتصارا للمنطق الاقتصادي بل إخفاق تم تكييفه سياسيا، فالعقوبات فشلت في تحقيق غاياتها، والآن يُراد لرفعها أن يحقق ما لم تحققه في فرضها، لكن الاقتصاد ليس لعبة مقايضة بين العقوبة والمكافأة، بل نظام للثقة العامة.
وما لم تستطع السلطات في سوريا إعادة بناء تلك الثقة بين المواطن والدولة، فإن أي تدفق استثماري خارجي سيبقى بلا أثر اجتماعي، تماما كما بقيت العقوبات بلا أثر سياسي.

رفع “قيصر” ليس نهاية الحصار، بل اختبار لقدرة السوريين على تحويل الانفراج الخارجي إلى تحول داخلي حقيقي من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج، ومن الولاءات إلى الكفاءات، ومن الدولة المشتتة أمنيا إلى الدولة القادرة.

وحين يحدث ذلك، فقط حينها، يمكن القول إن العقوبات رُفعت فعلا، لا من المصارف، بل من حياة الناس.

تطور الموقف الأمريكي من عقوبات “قيصر” على سوريا

تطور الموقف الأمريكي من عقوبات “قيصر” على سوريا

تحليل تفاعلي لتحول السياسة الأمريكية من العقوبات إلى الانفتاح وآثارها على الاقتصاد السوري والاستقرار الإقليمي

تأثير العقوبات على الاقتصاد السوري

الناتج المحلي الإجمالي
-60%
مقارنة بما قبل 2011
الليرة السورية
-95%
من قيمتها
معدلات الفقر
90%
وفق تقديرات الأمم المتحدة

التحول في الخطاب الأمريكي

قبل رفع العقوبات
بعد رفع العقوبات

خطاب “العقاب” والضغط الاقتصادي لتحقيق تغيير سياسي:

  • العقوبات كأداة نفوذ سياسي
  • الخنق الاقتصادي لدفع التغيير
  • التركيز على إضعاف السلطة السياسية

خطاب “الفرصة” والاستقرار الإقليمي:

  • رفع العقوبات يسهم في هزيمة تنظيم الدولة
  • منح السوريين فرصة لمستقبل أفضل
  • الانفتاح الاقتصادي لتحقيق الاستقرار

التطورات الجيوسياسية المتزامنة

1 تشرين الثاني
الإعلان عن رفع عقوبات قيصر
مزامن
زيارة الرئيس الانتقال أحمد الشرع إلى واشنطن
مزامن
مفاوضات بين دمشق وتل أبيب حول اتفاق أمني حدودي
مزامن
تصريحات روسية تؤكد استمرار الشراكة الاقتصادية مع دمشق
مزامن
دعوة لبنانية إلى تسريع ترسيم الحدود مع سوريا

آثار رفع العقوبات المتوقعة

الفرص

  • عودة رأس المال السوري من الخارج
  • دخول شركات إقليمية في مشاريع الطاقة والإعمار
  • استئناف برامج المنظمات الدولية التنموية
  • تحسين الظروف المعيشية للسكان

التحديات

  • اقتصار الانتعاش على فئات محددة
  • غياب الإصلاح المؤسسي
  • استمرار اللامساواة الاجتماعية
  • إعادة إنتاج اقتصاد الريع السياسي

الاستنتاج الرئيسي

رفع عقوبات “قيصر” ليس نهاية الحصار، بل اختبار لقدرة السوريين على تحويل الانفراج الخارجي إلى تحول داخلي حقيقي من اقتصاد الريع إلى اقتصاد الإنتاج، ومن الولاءات إلى الكفاءات، ومن الدولة المشتتة أمنيًا إلى الدولة القادرة.

وحين يحدث ذلك، فقط حينها، يمكن القول إن العقوبات رُفعت فعلاً، لا من المصارف، بل من حياة الناس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *