واشنطن الجديدة وسوريا المتحولة: قراءة في تحول الاستراتيجية الأميركية

صورة الاستراتيجية الأمريكية تجاه سوريا ظهرت بوضوح في مقابلة السفير الأميركي لدى تركيا والمبعوث الخاص إلى سوريا، توماس براك، مع قناة “العربية”، فمن خلال خطاب تمتزج فيه الواقعية البراغماتية مع الطموح الجيوسياسي المُقيد بالخبرة التاريخية؛ برزت ملامح تحول استراتيجي في النهج الأميركي، يشدد على أهمية الجغرافيا السياسية والاعتراف بالواقع الإقليمي.

الانكفاء المدروس: من الإمبريالية الليبرالية إلى الواقعية الجيوسياسية

لم تعد واشنطن راغبة في إعادة إنتاج حقبة بوش الابن، حيث رُفعت راية “تصدير الديمقراطية” وأُسقطت أنظمة تحت شعارات ليبرالية، وانغمست الإدارات الأميركية المتعاقبة في مشاريع هندسة سياسية واجتماعية بدول لم تكن تمتلك الشروط البنيوية لتقبلها.

ما قدمه براك في هذه المقابلة هو التنصل من هذا الإرث، مؤكدا أن بلاده لم تعد تريد “فرض دساتير” ولا “بناء دول”، بل تنسحب إلى موقع الشريك المرافق، لا الراعي الرسمي، لكنه لم يشرح بوضوح ما هي هذه “المرافقة” ولا كيف ستتم الموازنة بين انسحاب من ميدان الهيمنة التقليدية والإبقاء على النفوذ بوسائل بديلة، وهذا التحول يذكرنا بما أشار إليه روبرت كابلان في كتابه “انتقام الجغرافيا”: لا يمكن لأي قوة، مهما بلغت قوتها، أن تُلغي الجغرافيا والواقع المحلي، فكل محاولة لفعل ذلك لا تقود سوى إلى الفوضى أو إعادة إنتاج الاستبداد تحت غطاء الاستقرار.

واقعية أم تخلٍ عن المبادئ؟

قدم باراك السعودية على أنها مفتاح الاستقرار، ووضعها في موقع الشريك الذي يضفي شرعية على قرارات أميركية مسبقة، كرفع العقوبات عن سوريا، مما يثير الشكوك حول مدى استقلالية القرار السعودي، بل ويطرح سؤالا أوسع عن طبيعة التوازن في العلاقة الثنائية: هل ما زالت السعودية تملك هامش المناورة الحقيقي، أم أنها أُقحمت في دور “الوسيط المضمون” لتسهيل إخراج واشنطن من ورطتها السورية بأقل تكلفة؟

الأمر يتجاوز مجرد تنسيق دبلوماسي؛ فالاعتماد الأميركي على الرياض بات أداة لإضفاء شرعية إقليمية على مسار تريده واشنطن أن يبدو توافقا عربيا، بينما هو في جوهره إعادة تموضع أميركية تستفيد من الغطاء الخليجي، وهنا يصبح خطر “تحويل الحليف إلى أداة” حاضرا، ما يشير الى تحالفات غير متكافئة تُستخدم كقناع لتراجع القوة الأميركية وتحوّلها إلى فاعل خلفي بلا قدرة على المبادرة.

إن العلاقة القائمة على تحميل السعودية مسؤولية تيسير التحول السوري، دون أن يُمنح لها وزن حقيقي في صياغة القرار أو ضبط إيقاعه، ليست شراكة بقدر ما هي مقايضة غير متوازنة، وبدلا من تعزيز الموقع السعودي، يمكن أن تؤدي إلى تعميق اعتمادها على واشنطن في ملفات لا تملك فيها حرية الحركة الكاملة، ضمن فضاء إقليمي بالغ السيولة والتبدل.

سوريا الجديدة: دعم غامض في لحظة حرجة

تصوير باراك دعم الولايات المتحدة للرئيس أحمد الشرع على أنه تفويض محلي يتجاهل حقيقة أن الشرع جاء من سياق عسكري بعد انهيار النظام السابق، وفي لحظة فارقة من انهيار الدولة وتفتت المؤسسات، وما تسوقه واشنطن بوصفه “فرصة جديدة” يبدو أقرب إلى تبييض واقع مفروض بالسلاح، لا تعبيرا عن إرادة مجتمعية متماسكة، فالسياق الذي أتى فيه الشرع لم يكن نتاج عملية سياسية ناضجة، بل ثمرة فراغ أمني ومعادلات ميدانية فُرضت بقوة الاصطفاف الإقليمي.

في هذا الواقع تغيب الشفافية وتُدفن الأسئلة حول مشروعية الانتقال السياسي، بل يُعاد إنتاج سردية “رجل الضرورة” الذي يضمن الاستقرار أكثر من تمثيله لإرادة السوريين، والأخطر أن هذا الدعم الأميركي لا يبدو مشروطا بإصلاحات داخلية ولا بتعاقد اجتماعي جديد، بل مشروط فقط بالانضباط الإقليمي وضمان الأمن، فهو يدخل ضمن منطق الصفقات القديمة، حيث تتحول الدول إلى مسارح لاستقرار هش قائم على الولاء لا المشاركة، فالاستقرار غير الشرعي يولّد صراعا مؤجلا ينفجر حين يتوهم الفاعلون الخارجيون أنهم أداروا الأزمة بينما هم في الواقع راكموها تحت السطح.

أولوية الأمن أم تبرير السلطوية؟

الإصرار على الأمن على حساب الديمقراطية يعكس حالة من “الواقعية الكسولة”، حيث الاكتفاء بدعم أنظمة قوية ومتماسكة ولو كانت قمعية، فقط لأنها تضمن الحد الأدنى من الاستقرار المؤسسي، ولو على حساب الحقوق والحريات، في مقاربة براك، يتضح أن واشنطن تخلّت عن أي شروط سياسية حقيقية مقابل دعمها للنظام السوري الجديد، مكتفية بتعهدات أمنية فضفاضة ومكافحة الإرهاب كغطاء شامل لتجاوز مطلب التمثيل السياسي.

لكن هذا المنطق أثبت فشله في تجارب العراق ومصر واليمن، حيث أدى دعم أنظمة استبدادية إلى إعادة إنتاج الغضب الشعبي والانفجار المجتمعي، لا احتوائه، فالأمن حين يصبح بديلا عن الشرعية يفقد مبرره، لأن السلطة القمعية لا تنتج إلا استقرارا هشا، والأسوأ أن التواطؤ الدولي مع مثل هذه الأنظمة، تحت ذريعة محاربة الإرهاب، يساهم في إضعاف أي قوى مدنية ناشئة، ويترك الساحة للمتشددين وحدهم.

ما يبدو مصلحة آمنة في لحظة سياسية حرجة ينقلب تهديدا طويل الأمد، ليس فقط على الداخل السوري، بل على الجوار أيضا، فبقاء نظام دون عقد اجتماعي حقيقي، وبضوء أخضر دولي، لا يعالج جذور الأزمة، بل يؤجل انفجارها إلى حين، ويولّد بيئة مثالية للتمرد والمظلومية الدائمة.

طمأنة إسرائيل وإغفال الفلسطينيين

في حديثه عن محادثات محتملة بين سوريا و”إسرائيل”، يتجاهل براك بشكل لافت أي إشارة للقضية الفلسطينية، وكأن الشرق الأوسط يمكن أن يُعاد هندسته من الأعلى دون الالتفات إلى الجرح المفتوح في مركزه، وهذا التجاهل ليس فقط تقنيا أو ظرفيا، بل يعكس نزعة أميركية متزايدة لفصل المسارات، حيث يُنظر إلى التطبيع العربي الإسرائيلي كمسار مستقل، لا كجزء من حل عادل وشامل.

هكذا تصبح “إسرائيل”، في الخطاب الأميركي الجديد، طرفا يمكن التحاور معه في ملفات مستقلة، فالقضية الفلسطينية أصبحت تفصيلا جانبيا، لا بوصلة أخلاقية واستراتيجية، وهذا النوع من الخطاب يذكرنا بروح “اتفاقات إبراهام”، التي أُبرمت بمعزل عن أي تقدم على صعيد إنهاء الاحتلال أو ضمان الحقوق، وتتجاهل التراكم التاريخي للنزاع وتُعوّل على المصالح المؤقتة بدل المعالجات الجذرية.

في السياق السوري، يبدو الأمر أكثر خطورة، إذ يُطرح الحديث عن علاقات محتملة مع “إسرائيل” في غياب أي مسار حقيقي للعدالة الانتقالية أو المصالحة الداخلية، ما يجعل فكرة “السلام” أقرب إلى صفقة فوقية بين نخب سياسية، لا عقد اجتماعي جديد، وهذا النوع من التسويات الهشة لا يُنتج استقرارا، بل يؤسس لعدم توازن مزمن، ويمنح شرعية مبكرة لنظام لم يُختبر بعد أمام إرادة شعبه، ولا أمام جراحه الداخلية المفتوحة.

خطاب بلا أدوات تنفيذية

رغم الوعود المتكررة التي أطلقها براك حول التخلي عن الإملاءات والانفتاح على الاستماع والمشاركة، فإن المقابلة لم تتضمن أي تصور عملي أو خطة تفصيلية لتفعيل هذه الشراكات، أو لتأطير إعادة الإعمار ضمن آليات واضحة تضمن الشفافية والمساءلة، فلا خارطة طريق، ولا جدول زمني، ولا حتى إشارات إلى أدوات تمويل أو تنسيق مؤسسي، فالنوايا تحولت إلى شعارات، والمواقف إلى مجرد مواقف بلاغية.

وفي غياب سياسات ملموسة، تصبح تصريحات براك أقرب إلى خطاب تهدئة، موجّه للجمهور الإقليمي والدولي بهدف امتصاص القلق من غياب استراتيجية أميركية متماسكة، وهذا النمط من الكلام، الذي يُبنى على التسويف و”الانتظار البنّاء”، يعكس في جوهره بـ”إستراتيجية اللاحسم”، حيث تؤجل القرارات الكبرى تحت غطاء التدرج والحذر، فيما تتآكل الأرضية تحت الأقدام.

الأخطر أن غياب الأدوات لا يعني فقط قصورا في التنفيذ، بل يعكس نية ضمنية بعدم الالتزام العميق. فحين لا تُقدم الولايات المتحدة على تشكيل آلية إقليمية، أو رعاية منصة سياسية جادة، أو حتى الإشارة إلى دعم عمليات انتخابية تحت إشراف دولي، فهي عمليا تُبقي على هامش رمادي تتحرك فيه الأزمات بحرية، فغياب الأدوات هو الوصفة المثالية للفوضى المستترة؛ فوضى لا تُعلن عن نفسها، لكنها تنخر في الهياكل، وتُبقي كل الاحتمالات مفتوحة على حساب الاستقرار الحقيقي.

براك يحاول رسم صورة أميركا المتواضعة، الحريصة على السلام والاستقرار، لكنه يقدّم سياسات قائمة على تقليص الالتزام، وتفويض غير واضح، وشراكات فوقية، فهي وصفة للتهرب أكثر من كونها مشروعا إقليميا، فواشنطن ليست بصدد الانخراط الذكي بل الانسحاب المغلف بالدبلوماسية، وما يهم في النهاية ليس ما يُقال بل ما يُنفذ، وهو ما تفتقر إليه هذه الاستراتيجية حتى اللحظة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *