من يقرأ مقابلة المبعوث الأميركي توماس براك مع المؤثر الأسترالي ماريو نوفل يظن لوهلة أن الشرق الأوسط قابل لأن يُدار كصفقة عقارية كبرى، فهناك رأس مال خليجي، وكفاءات لبنانية وسورية، وتجارة مفتوحة بين تركيا وإسرائيل والخليج، فخطابه مفعم بوعود “السلام عبر الازدهار”، لكنه يتجاهل الحقائق التي تعيد نفسها منذ قرون.
هذا التباين بين الرؤية الاقتصادية التي يطرحها براك وبين الجغرافيا الصلبة للمنطقة يختصر مأزق السياسة الأميركية اليوم، في عهد الرئيس دونالد ترامب، حيث تحكم واشنطن بعقلية رجل الأعمال، فيما الأرض لا تزال تتكلم بلغة الطوائف والجبال والقبائل والحدود الملتهبة.
جغرافيا عنيدة أمام الرؤى الحالمة
يتحدث براك عن سوريا ولبنان وكأنهما ساحتان يمكن إعادة هندستهما ببرامج استثمارية، غير أن نظرة جغرافية بسيطة تكشف حجم الوهم، فسوريا، الممتدة من بادية قاحلة شرقا حتى جبال الساحل غربا، ومن حدود تركيا المضطربة شمالا حتى عمق الصحراء الأردنية والعراقية جنوبا، ليست مجرد أرض قابلة للدمج في سوق إقليمي.
إنها بعد سقوط نظام البعث أصبحت فسيفساء بشرية وجغرافية من قبائل بدوية تعيش في الصحراء وتشكّل ثقافة التنقل والولاءات العشائرية، وطوائف دينية ستولّد هويات مغلقة، ومدن ساحلية تنفتح على التجارة لكن تبقى قلقة من محيطها الريفي، وسهول واسعة مفتوحة أمام الغزاة والتدخلات.
هذه الجغرافيا لم تُنتج مجرد تضاريس، بل ثقافات سياسية وسلوكيات جماعية؛ صنعت دولا ضعيفة تاريخيا، وعاجزة عن تشكيل عقد اجتماعي جامع، ودَفعت القوى الخارجية دوما للتدخل، من العثمانيين إلى الفرنسيين وصولا إلى الأميركيين.
عمليا فمنذ الاستقلال اتسمت سوريا بقدرة استثنائية على البقاء في ظل توازن بين القوى المحلية والإقليمية والدولية، رغم كل التحديات الجغرافية والسياسية، وتمكن النظام السوري من الحفاظ على استقراره بشكل نسبى، وأوجد معادلة بين مكوناته رغم الحروب الأهلية في جواره الجغرافية، سواء في لبنان خلال عقد السبعينيات، أو في العراق بعد الاحتلال الأمريكي وسقوط بغداد، وهذا الاستقرار اعتمد بشكل أساسي على قوة الدولة المركزية التي كانت تحت سيطرة البعث، حيث استطاع الحفاظ على الوحدة السياسية رغم التعدد الطائفي والعرقي.
الاقتصاد كقناع للهيمنة
يقرّ براك أن العقوبات الأميركية خنقت سوريا، لكنه يعرض الأمر وكأنه خلل ثانوي يمكن تجاوزه بمشاريع استثمارية، بل يذهب أبعد من ذلك حين يتحدث عن الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع بوصفه “صادق النية” في إعادة سوريا إلى مسار الاستقرار، ففي نظر براك، لا يُختزل الشرع في شخصيته، بل في قابليته لأن يكون عنصرا متوافقا مع المصالح الأميركية، فهو يحاول استعادة التوازن الداخلي، لكنه لا يمتلك القدرة على مقاومة شروط واشنطن.
وهنا يظهر التناقض الجوهري، فالولايات المتحدة تحاصر دمشق اقتصاديا وتدفعها نحو الانهيار، ثم تعرض “مخرجا” وحيدا عبر الاندماج في اقتصاد إقليمي تسيطر هي على بواباته؛ إنه سلام مشروط بالهيمنة، لا عقد شراكة متكافئة، والتجربة العراقية بعد 2003 كانت أوضح دليل حيث أُنفقت المليارات، لكن الجغرافيا الطائفية والحدودية أسقطت كل مشاريع “الازدهار”.
إيران: الخصم الذي رسّخته الجغرافيا
يرى براك أن إيران هي الخصم الأكبر للولايات المتحدة في المنطقة، وأن الحل لمعضلة حزب الله يكمن في بدائل اقتصادية يمكن أن تخفف من اعتماده على التمويل الإيراني، هذه المقاربة تبدو وكأنها امتداد للعقلية الأميركية التي تختزل الصراعات العميقة في معادلات مالية أو مشاريع تنموية، متجاهلة أن حزب الله ليس مجرد “حالة اجتماعية” قابلة للاستيعاب عبر التنمية، بل جزء من شبكة إقليمية متجذرة في عقيدة سياسية وعسكرية.
لكن الجغرافيا تقول شيئا آخر، فإيران محاطة بالخصوم غربا وجنوبا، ولا منفذ لها سوى التمدد غربا عبر ما يُعرف بـ”الممر الشيعي” الممتد من طهران إلى بغداد فدمشق وصولا إلى بيروت، وهنا يصبح حزب الله أكثر من مجرد ذراع مالية لإيران؛ فهو تجسيد لعمق استراتيجي تحميه الجبال والحدود المنفلتة، وتغذّيه بنية طائفية رسّختها عقود من الحرب الأهلية اللبنانية، فلا مشاريع استثمارية قادرة على كسر هذا الارتباط، لأن طبيعته جغرافية–أمنية قبل أن تكون اقتصادية.
إسرائيل وحدود الأمن المستحيل
في طرح براك، تبدو “إسرائيل” مركز الثقل في معادلات المنطقة، فهي دولة تبحث عن حدود آمنة بعد السابع من تشرين الأول، وتضغط باتجاه إقامة مناطق عازلة جنوب لبنان بوصفها ضمانة لتقليص تهديدات حزب الله، غير أن هذه المقاربة تفترض إمكانية فرض أمن مطلق في بيئة جغرافية غير مستقرة بطبيعتها، حيث الحدود قصيرة ومتشابكة، وحيث الطوائف والميليشيات جزء من النسيج الاجتماعي لا يمكن عزله بسهولة.
الجغرافيا تعاند هذا التصور، فـ”إسرائيل” محاطة بمزيج من الجبال والمخيمات، وحدودها الضيقة لا تمنحها أي عمق استراتيجي يوفّر لها الطمأنينة، لهذا السبب ظلّت تعتمد تاريخيا على التفوق العسكري النوعي وعلى الدعم الأميركي السياسي والمالي لتعويض هشاشتها الجغرافية، وأي “سلام اقتصادي” يطرحه براك لن يغير هذه المعادلة الجوهرية؛ فالمخاطر التي تهدد إسرائيل ليست وليدة غياب التنمية، بل نابعة من كونها دولة اغتصبت حقوق شعب وتشكلت في قلب جغرافيا معادية لا تعترف أصلا بشرعية وجودها، حيث الأرض والذاكرة والهوية تشكّل خطوط المواجهة أكثر من الحسابات المالية.
سوريا كمفترق طرق إقليمي
يحلم براك بربط سوريا بالأسواق التركية والخليجية والإسرائيلية، لكن موقع سوريا ذاته يجعلها أكثر هشاشة من أن تكون جسرا آمنا أو عقدة تجارية مستقرة، فهي تقع على تقاطع طرق إمبراطوريات قديمة من الفرس والرومان والعثمانيون، وكلهم مرّوا منها وتركوا بصماتهم.
تاريخها سلسلة من الغزوات لأنها بلا جبال تحمي العاصمة من الشمال، وبلا صحارى كافية لعزلها عن الطامحين من الشرق والجنوب، ولهذا السبب، لم تعرف دمشق استقرارا طويل الأمد، بل ظلت معرضة لتأثيرات القوى الكبرى التي تتناوب على السيطرة.
لكن الجغرافيا ليست تضاريس فحسب، بل ثقافة تشكّل الوعي السياسي والاجتماعي، في سوريا، موقعها كـ”مفترق طرق” خلقت هوية من مدن ساحلية منفتحة على التجارة المتوسطية، ومجتمعات جبلية لها خصوصيتها، وريف داخلي له مشكله التنموية، وها الخليط الثقافي جعل من صياغة عقد اجتماعي موحد ليس بالأمر السهل، وأسهم في تحوّل الدولة سريعا إلى ساحة لتصفية الحسابات بين موسكو وطهران وأنقرة وواشنطن، وأي مشروع اقتصادي يتجاهل هذه الحقائق الثقافية–الجغرافية لن يكون سوى وهم جديد، يعيد إنتاج مأزق كل المحاولات السابقة لإخضاع سوريا لمنطق السوق بدلاً من منطق التاريخ والجغرافيا.
انسحاب بغطاء اقتصادي
جوهر ما يطرحه براك يتطابق مع رؤية ترامب، فهناك انسحاب نسبي من التورط العسكري المباشر، مقابل إدارة المنطقة عبر أدوات اقتصادية وأمنية، لكن هذا الانسحاب ليس حيادا، بل استمرار للهيمنة بوسائل أخرى، واشنطن لا تريد أن تدفع ثمن الدماء، لكنها تسعى لفرض هندسة إقليمية تجعل الجميع معتمدين على شبكاتها المالية والتكنولوجية، غير أن الجغرافيا البشرية من حماة إلى البقاع إلى غزة لا تُخضع نفسها بهذه السهولة لمنطق السوق.
التناقض الجوهري بين خطاب براك والجغرافيا يكمن في التالي:
- السلام عند براك يساوي الازدهار اقتصادي والاستثمارات، أما السلام في الجغرافيا فهو توازنات قوى محلية محكومة بالدم والهوية والتاريخ.
- حزب الله عند براك كيان يمكن استبدال تمويله الإيراني بمشاريع تنمية، أما في الجغرافيا فهو واقع راسخ في جبل عامل، يتغذى من شعور ثقافي – تراثي وعمق إقليمي.
- سوريا عند براك دولة يمكن إدماجها في سوق إقليمي جديد، وفي الجغرافيا ساحة صراع لا تهدأ لأنها مفترق طرق لكل القوى.
- لبنان عند براك نموذج دولة قابلة للاستقرار عبر جيش قوي ومغتربين أغنياء، لكنها في الجغرافيا كيان هش لا يستطيع التخلص من طوائفه وجباله وتبعيته الدائمة.
الرؤية الأمريكية في سوريا بين الاقتصاد والجغرافيا
📌 ملاحظة استخدام: يمكنك تمرير المؤشر (أو لمس النقاط على الجوال) لاستكشاف التفاصيل التوضيحية لكل محور.
⚠️ تنويه: هذا الرسم تحليلي توضيحي ولا يمثل بيانات إحصائية دقيقة.
مأزق أميركا المتكرر
تُعيد رؤية براك إنتاج خطأ أميركي مزمن في تجاهل الجغرافيا لصالح الأوهام الاقتصادية؛ من فيتنام إلى أفغانستان إلى العراق، اعتقدت واشنطن أن التكنولوجيا والمال قادران على تطويع خرائط معقدة، لكن الخرائط لا تُطوّع، بل تُقرأ/ وفي سوريا اليوم، يبدو أن الولايات المتحدة ماضية في المسار نفسه من خلال خطاب عن “السلام والازدهار”، يقابله واقع من حدود مشتعلة، واقتصاد منهار، وهويات تستمد قوتها من التضاريس قبل الأيديولوجيا.
في عهد دونالد ترامب، تبدو هذه السياسة منسجمة مع منطق رجل الأعمال الذي يرى العالم صفقات متبادلة، لكن الجغرافيا، بعنادها التاريخي، ستظل تقوّض كل صفقة لا تراعي دماء الأرض وهوية سكانها، فالمشرق ليس سوقا عقارية، بل مسرح تاريخي حيث تتصارع الجبال مع الصحارى، والقبائل مع الدول، والقوى العظمى مع خرائط لا ترحم.