لم يكن ما شهدته سوريا مطلع هذا العام ولادة لعصر الحرية كما حلم كثيرون، بل انفجارا لعصر جديد من الفوضى العارمة، وبدلا من أن تستعيد البلاد توازنها، انهارت مؤسسات الدولة وتفككت الروابط الاجتماعية، تاركة فراغا تحوّل بسرعة إلى مسرحٍ لعنف مضاعف.
في قلب هذه المأساة، وجدت النساء أنفسهن الهدف الأبرز، فأجسادهن أصبحت ساحة لتصفية الحسابات السياسية والطائفية، ومعاناتهن صارت مرآة لانهيار المجتمع بأسره.
ما يجري ضد النساء في سوريا منذ بداية 2025 لا يمكن أن يُختزل في جداول الإحصاءات أو عدد الضحايا، بل هو مرآة لانهيار أوسع حيث تفككت منظومة السلطة وانكشفت هشاشتها، وتصاعدت الجغرافيا الطائفية كعامل محدِّد للعنف، وتآكل العقد الاجتماعي في ظل غياب أي مظلة قانونية أو مؤسساتية.
إنه عنف يكشف ليس فقط حجم المأساة الإنسانية، بل طبيعة النظام السياسي والاجتماعي الذي وُلد من رحم الفوضى.”
الأرقام التي تكشف الانهيار
بين كانون الثاني وأيلول 2025، برزت ثلاث بؤر رئيسية للعنف ضد النساء:
- الساحل السوري (اللاذقية، طرطوس، حماة):
وفق تقرير رويترز (يونيو 2025)، تم اختطاف ما لا يقل عن33 امرأة وفتاة أعمارهن تراوحت بين 16 و39 عاما، وبعضهن أُطلق سراحهن بعد دفع فدية، فيما اختفت أخريات في ظروف غامضة، في هذه الحالات، لم يكن الدافع ماليا فقط، بل سياسيا وطائفيا، فالرسائل موجهة إلى طائفة بأسرها بأن زمن الحصانة انتهى. - السويداء:
من منتصف تموز 2025 وحتى أيلول، وثّقت الأمم المتحدة اختطاف 105 امرأة وفتاة من جبل العرب، لا تزال 80 منهن مفقودات حتى اليوم تقارير ميدانية أكدت أن بعض المختطفات تعرضن للاغتصاب قبل إعدامهن ميدانيا، وهذا النمط ليس مجرد جريمة، بل تعبير عن حرب هوية، حيث تُستهدف النساء لكونهن حاملات لرمز الطائفة. - ضحايا العنف الجماعي:
خلال الأشهر الأولى من 2025، شهدت مناطق الساحل والسويداء مجازر مروّعة، ففي السويداء وحدها، قُتل نحو1000 مدني، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، وأُحرقت33 قرية، والعنف هنا لم يميز بين رجل وامرأة، لكن النساء دفعن ثمنا مضاعفا من خلال فقدان الأبناء والأزواج، والتعرض للاختطاف أو العنف الجنسي.

ما وراء الأرقام: انهيار الدولة كمولّد للعنف
منطق القوة في سوريا اليوم لم يعد مرتبطا بمؤسسات الدولة التقليدية، بل بالمليشيات المحسوبة التي أصبحت ركيزة أجهزة الأمن، أو المجموعات المحمية من قبل السلطات، وفي مثل هذا السياق، تصبح النساء الحلقة الأضعف، ليس لأنهن مجرد “ضحايا”، بل لأن استهدافهن يحقق عدة أهداف:
- إذلال الجماعة في مجتمع يقوم على شرف العائلة والطائفة، اختطاف امرأة أو اغتصابها يُعتبر إهانة جماعية.
- أداة للتفاوض فيستخدم النساء كرهائن لابتزاز الخصوم، سواء بطلب فدية مالية أو مكاسب سياسية.
- إعادة ترسيم الهوية فالزواج القسري للفتيات القاصرات، كما حدث في بعض حالات الساحل، ليس مجرد جريمة فردية بل محاولة لفرض هوية جديدة.
هذا النمط يوضح أن العنف ضد النساء لم يعد مجرد عرض جانبي للحرب، بل جزء من بنية السلطة الجديدة غير الرسمية التي تحكم سوريا اليوم.
إن كان من سمة رئيسية لعام 2025 فهي عودة النزاعات الطائفية إلى الواجهة. العلويات في الساحل، والدرزيات في السويداء، تحويلهن إلى أهداف مباشرة، لا يتعلق الأمر بعداء شخصي، بل باستخدام النساء كرموز، فاختطاف امرأة علويّة يُترجم كرسالة سياسية: “زمنكم انتهى”. واغتصاب فتاة درزية يُفهم كوسيلة لتحطيم معنويات طائفة بأكملها.
بهذا المعنى، فإن الجسد الأنثوي لم يعد يُنظر إليه كفرد، بل كجبهة حرب. وهنا يكمن جوهر المأساة: النساء يُختزلن إلى أدوات في صراع لا يملكن فيه أي خيار.
الإفلات من العقاب: الحلقة الأخطر
كل هذه الجرائم ما كانت لتتسع لولا غياب أي سلطة قضائية، فالمحاكم المحلية غائبة أو متواطئة، والأجهزة الأمنية إما متورطة أو عاجزة، أما المجتمع الدولي، فمشلول بين أولويات جيوسياسية أكبر من صراع النفوذ بين القوى الإقليمية، إلى أزمات أوكرانيا وتايوان.
إن الإفلات من العقاب لا يعني فقط أن الجناة لن يُحاكموا، بل يبعث برسالة واضحة بأنه يمكن تكرار الجريمة بلا ثمن، وهذا ما يفسر استمرار حوادث الاختطاف والاغتصاب بوتيرة شبه أسبوعية في بعض المناطق.
التداعيات الاجتماعية
العنف ضد النساء في سوريا 2025 لا يقتصر على الضحايا بشكل مباشر لأنه يخلّف آثارا عميقة على المجتمع بأسره:
- التفكك الأسري فكثير من العائلات اضطرت للنزوح أو تفككت بعد اختطاف إحدى بناتها.
- أزمة ثقة لأن الشعور بأن لا أحد يحمي النساء يقوّض أي ثقة متبقية بين المواطنين والجماعات المسلحة التي تسيطر على مناطقهم.
- الوصمة.. النساء اللواتي ينجون من الاغتصاب يواجهن وصمة اجتماعية، ما يزيد من عزلتهن ويضاعف مأساتهن.
الطريق المسدود
منذ مطلع 2025، أثبتت التجربة السورية أن سقوط نظام لا يعني تلقائيا ولادة الحرية؛ على العكس يفتح الباب أمام فراغ كبير الخطورة، والنساء كنّ أول من دفع ثمن هذا الفراغ.
الطريق نحو الخروج من هذا المأزق يتطلب أكثر من مجرد بيانات إدانة دولية، المطلوب:
- آلية تحقيق دولية مستقلة ترصد وتوثق الجرائم ضد النساء منذ كانون الأول 2024.
- حماية ميدانية عاجلة عبر بعثات مراقبة أو ممرات آمنة.
- برامج دعم نفسي واقتصادي للناجيات وأسرهن.
سوريا 2025 تُظهر بوضوح أن العنف ضد النساء ليس ظاهرة عرضية، بل مؤشر على عمق الانهيار السياسي والاجتماعي، ففي عالم تتقاطع فيه الطائفية مع انهيار الدولة، تصبح النساء الهدف الأسهل، والأكثر رمزية، وتجاهل هذه الحقيقة لا يعني فقط خيانة الضحايا، بل أيضا التغاضي عن البوصلة التي تكشف أين يتجه البلد بأسره.
أصبحت النساء في سوريا مرآة لانكسار الدولة والمجتمع معا، وأي مشروع لإعادة البناء لن ينجح ما لم يضع حمايتهن وكرامتهن في قلب المعادلة.


احصائيات دقيقة وتصوير واقعي .