سعد لوستان
منذ اندلاع الحرب السورية، ظلّت المخيمات الفلسطينية في قلب المأساة، حيث تداخلت الجغرافيا السياسية مع الموروث الوطني، ووجد الفلسطينيون أنفسهم (كعادتهم) وقوداً لصراع لم يكونوا طرفاً أصلياً فيه. ومن بين أكثر الاتهامات تداولاً، تلك التي طالت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ القيادة العامة، باعتبارها فصيلاً ثورياً ذا أثر نوعي في الصراع العربي الإسرائيلي، ثم لاحقاً كمتّهم في بعض وقائع العنف ضمن مخيمات اللاجئين، خاصة في دمشق ومحيطها.
بصفتي فناناً وناشطاً سوريا – فلسطينيا، ومعاصراً لتفاصيل هذه المرحلة، أجد من واجبي الأخلاقي تسليط الضوء على جانب مهم غالباً ما يُهمل في خضم التعميم والشيطنة الجماعية.
تحولات القيادة والانقسام داخل التنظيم
منذ عام 2009 شهدت الجبهة تحولات تنظيمية حادة، إذ لم يعد الأمين العام الراحل أحمد جبريل قادراً على اتخاذ القرار الفعلي داخل التنظيم، لأسباب صحية وتنظيمية واضحة، ومع تراجع دوره، انتقل القرار الميداني إلى شخصيات أخرى، أبرزها الأمين العام المساعد طلال ناجي، بالإضافة إلى عناصر ارتبطت بتحالفات عسكرية قائمة فعلياً على الأرض، لا سيما على الجبهة الشرقية لدمشق، ضمن إطار محسوب على النظام السوري وداعميه الإقليميين.
هنا، لا بد من التمييز بين “الاسم” و”الفاعلية” فعديد العمليات المنسوبة للجبهة جرت في ظل غياب القيادة التقليدية الفعلية، ونفذتها مجموعات تبعت لزعامات داخل التنظيم، شكلت تيارات سمتها التفرد والفساد، وتحالفت ظرفياً مع فصائل عراقية طائفية، زُجّت في أتون الحرب السورية
لذا، تحميل “الجبهة” ككل مسؤولية تلك المجريات هو تبسيط ظالم، لا يخدم الحقيقة ولا ذاكرة الضحايا، ولا يساعد على مساءلة حقيقية لمن قتلوا السوريين والفلسطينيين إبان الثورة السورية.

الجبهة في مواجهة الجماعات المتطرفة
بعيداً عن صورة “المرتزق السياسي” خاضت الجبهة معارك دامية ضد تنظيمات تكفيرية مثل “داعش”، “جبهة النصرة”، و”أكناف بيت المقدس” بل واشتبكت مع مرتزقة “فاغنر” حين اقتربوا من مقابر الفلسطينيين في مخيم اليرموك بمحاولة لنبش قبور سرية أخفت قيادة الجبهة فيها جثثاً لجنود إسرائيليين قُتلوا في معركة “السلطان يعقوب” زمن الاجتياح الإسرائيلي للبنان 1982 وذلك بهدف إعادة فتح ملفات لمصلحة تل أبيب وإعادة جثث الصهاينة القتلى إلى الكيان.
هذه الاشتباكات وإن لم تنل تغطية إعلامية واسعة، توضح أن الجبهة لم تكن مجرد أداة، بل طرفاً فاعلاً في الدفاع عن الذاكرة الفلسطينية ضد انتهاك مزدوج: طائفي وصهيوني.
ما بين الفعل المقاوم والانحياز السياسي
تاريخيا، تميزت الجبهة الشعبية – القيادة العامة بنهج عملي، بعيد عن البهرجة الإعلامية والنجومية الثورية. فرغم رصيدها النوعي في العمليات الخاصة التي طالت العدو الصهيوني في عدة بقاع من العالم، بقي كثير منها طي الكتمان، ما يعكس احترافية نادرة في التخطيط والتنفيذ، ثم الصمت.
ومع ذلك، كثيرا ما وُجهت للجبهة اتهامات بالتحول إلى أداة بيد النظام السوري، على الرغم من تلقيها دعماً كبيراً من دول مثل ليبيا وإيران إلا أن تموضعها السياسي بقي منحازاً بوضوح لصالح دمشق. هذا الاتهام بلغ ذروته في مواجهة القيادة العامة مع منظمة التحرير الفلسطينية، خصوصاً خلال حصار طرابلس 1983، حين تمكن جبريل مدعوماً من دمشق من إخراج عرفات ومنظمة التحرير إلى تونس عبر البحر، إلى غير رجعة، ورغم تبرير أحمد جبريل لهذه المعركة بوصفها تصحيحاً لمسار “انهزامي”، فإن كثيرين رأوا فيها تصفية حسابات سياسية لصالح دمشق، أكثر من كونها نضالاً خالصاً لخدمة القضية الفلسطينية.
من أجل سردية عادلة
الذاكرة الفلسطينية والسورية تحتاج إلى مراجعة دقيقة، لا انتقاماً متأخراً ولا تبريراً ساذجاً، بل سعياً إلى سردية عادلة، تميّز بين القيادة الفعلية والانحرافات العملياتية، وبين الفعل المقاوم والخطأ السياسي.
هذه المراجعة ليست رفاهية، بل واجب على كل من يحمل هوية هذا الجرح المزدوج، السوري والفلسطيني، حتى نتمكن – نحن أولياء الدم – من كتابة التاريخ الصحيح.
مقال سعد يضيء على مرحلة كانت في “ظل سميك” لفترة طويلة، يكشف عن محاولات لفهم المسار، لا لتصفية الحسابات معه ولو بحذر. نبرة الوفاء في مقالته لا تخلو من الشجاعة، لكنها تترك الباب مفتوح لنصوص أخرى قد تكون أكثر صراحة وشغبا. الكتابة عن هذا “التنظيم الإشكالي” (بنظري) هو ضرورة ملحة، ليس علينا ان نبقى غارقين في ضجيج الأبطال ونحلم بكلمات الانتصار الفارغة. الجبهة بحاجة إلى من يكتب عنها من الداخل، من قلب الخيبة والارتباك، والهزائم لا من أرشيف الانتصارات.
نحن بحاجة إلى نقد ذاتي حقيقي، كأن نعرف مثلا لماذا ضل الرصاص طريقه؟ نريد ان نفهم عن التحالفات التي لم تدم… عن المخيم الذي ظل ينتظر وعن الشعار الذي تحول الى مجهول. ننتظر المزيد، قراءة هادئة؟ ربما يا سعد… تشبه هواءك.