مجلس الأمن وسوريا: بين تصاعد التشدد الداخلي وردود الفعل الدولية

        ما يحدث في سوريا هو اتساع الفراغ السياسي مع انكفاء دولي لسد الفجوة في شرقي المتوسط بعد انهيار منظومة الأمن الإقليمي السابقة، فجلسة مجلس الأمن، أمس الجمعة، حول الوضع السوري لم تطرح فقط هشاشة المرحلة الانتقالية بل أيضا المأزق الجيوسياسي لشرقي المتوسط.

كانت ملامح “سوريا الجديدة” غارقة ما بين التصعيد الميداني لظواهر التشدد والانقسام، في مقابل خطاب رسمي قدمه وزير الخارجية السوري، أسعد حسن الشيباني، حاول فيه تسويق رؤية متفائلة، مستعرضا خطوات شكلية كالانفتاح الطائفي والإصلاحات الدستورية، ودون التطرق إلى الصورة القاتمة التي تحكم واقع السوريين، ليس في الساحل فقط بل في كافة المناطق نتيجة الانهيار الاقتصادي والفقر المدقع وانعدام الأمان الذي لا يزال يطارد السوريين في تفاصيل حياتهم اليومية.

الصورة المتفائلة عن مرحلة انتقالية طويلة ستمتد لسنوات واجهت مداخلات بقية الأطراف الدولية لتكشف هشاشة هذا التصور، ولتعكس حجم التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني، فوزير الخارجية السوري استخدام خطاب يستمد المشروعية من طبيعة النظام الذي انهار، فهو أكد بأن “سوريا الجديدة” تجاوزت مرحلة القمع، وتحدث عن طائرات “تنثر الزهور” بدل البراميل المتفجرة، واستعرض إشارات لعودة الانسجام الطائفي، مثل احتفال المسلمين والمسيحيين والأقلية اليهودية بمناسباتهم الدينية بحرية.

لكن الاهتمامات الدولية التي ظهرت داخل جلسة مجلس الأمن كانت مختلفة تماما، فبغض النظر عن التظاهرة الاحتفالية التي بدأها الشيباني عبر رفع العلم الجديد لسورية في الأمم المتحدة، فإن التركيز الدول يبحث عن حالة التوافق بين طبيعة النظام الجديد والمخاوف العالمية من الوضع السوري وهو ما يوضحه الرسم البياني التالي:

مقاربة الدول الكبرى: التركيز على المساءلة والشفافية

        الرواية الرسمية قفزت فوق المأساة اليومية التي يعيشها السوريون من انعدام الأمن الغذائي لأكثر من نصف السكان، ونزوح سبعة ملايين شخص، واستمرار اعتقال الآلاف، وانهيار اقتصادي خانق يحطم أي فرص حقيقية للانتعاش، في المقابل فإن مداخلات الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنسا ركزت على قضايا العدالة الانتقالية، وكشف مصير المفقودين، ومحاسبة المسؤولين عن مجازر الساحل الأخيرة التي حصدت آلاف الأرواح، معظمهم من العلويين والمسيحيين، حيث أبرزت هذه الدول هشاشة سلطة الحكومة الجديدة، مطالبة بتحقيق شفاف في الأحداث الطائفية، وربطت فرنسا، كرئيسة الجلسة، مصداقية السلطات الانتقالية بمخرجات لجنة التحقيق الدولية. أما بريطانيا فوضعت أولوية لمسألة “إنهاء الإفلات من العقاب”، كشرط أساس لإمكانية تحقيق مصالحة وطنية.

روسيا وإيران: دعم مشروط وانتقاد للتدخلات الخارجية

ركزت روسيا على أهمية دمج الأكراد والأقليات الأخرى لضمان استقرار سوريا، مشيرة إلى اتفاقية 10 آذار مع الأكراد كخطوة إيجابية، لكنها أبدت تحفظًا حول أحداث العنف الطائفي في الساحل، وطالبت بتحقيقات شفافة، أما إيران فوجهت اللوم إلى إسرائيل، معتبرة أن الاعتداءات الإسرائيلية تُضعف قدرة سوريا على مواجهة الإرهاب وتثبيت استقرارها الداخلي.

في المقابل فإن مساعد الأمين العام للشؤون الإنسانية، جويس مسويا، عرض صورة قاتمة تبدأ من شح المساعدات، وخطر توقف برامج الأغذية بحلول آب، وإغلاق نصف مراكز الدعم المجتمعي، حيث تطالب الأمم المتحدة طالبت بزيادة التمويل فورا، مشيرة إلى أن الأوضاع الإنسانية الكارثية تعرقل أي تقدم سياسي.

الفجوة بين الخطاب والواقع: مفارقة صارخة

خطاب الشيباني لم يتعامل بجدية مع الفجوة العميقة بين رواية النظام الجديد وحقيقة الانقسامات الطائفية المتفاقمة، وتدهور البنية الاقتصادية والاجتماعية، فحين يتحدث عن عودة الحياة الطبيعية، تكون الحقيقة أن معظم العائدين المحتملين يُثنيهم غياب الخدمات الأساسية، وغياب الأمان الشخصي، واستمرار عسكرة الحياة اليومية، وفي الجغرافيا السياسية، هذه الفجوة تعني أن سوريا الحالية، رغم تبدل الوجوه، ما تزال محكومة بذات المنظومات القمعية، مع ميل نحو مزيد من التشدد الداخلي بدل الانفتاح الحقيقي.

الوضع السوري اليوم يعبر عن ساحة صراع بين خطاب إعادة التأهيل السياسي الذي تسعى دمشق لفرضه، وبين واقع موضوعي من الانهيار المؤسسي والاحتقان الطائفي، دول كروسيا وإيران تدفع نحو تثبيت أمر واقع قابل للاستمرار بالحد الأدنى، بينما القوى الغربية تركز على مشروطية الإصلاح الحقيقي بالعدالة والمساءلة، ويقدم الرسم البياني التالي درجة اهتمام الدول الكبرى من تفاصيل المسألة السورية:

ويبقى السؤال المطروح: هل ينجح النظام الانتقالي في فرض سرديته على الأرض، أم أن التناقضات الداخلية ستطيح بأي محاولات تجميل، لتعيد إنتاج أزمات سوريا المزمنة بشكل أكثر انفجارًا مستقبلاً؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *