من سفوح اللاذقية إلى ضواحي دمشق: كيف أعادت الفصائل الجهادية رسم خطّ النار

خلال صيف 2013، اجتاح مقاتلو “الحزب الإسلامي التركستاني”، وفصائل أوزبكية وقوقازية الجبال المتاخمة لريف اللاذقية، ليفجّروا أكثر مجازر الساحل السوري دموية منذ اندلاع الاضطرابات عام 2011، ولم يكن ذلك الاختراق الدموي حدثا منعزلا؛ بل امتداداً لمسار طويل بدأ مع تدفّق الجهاديين الأجانب عبر إدلب، ثم تحوّل إلى شبكة عابرة للمحاور المذهبية والجغرافية، ومع انحسار جبهات الشمال بعد 2016، فمن مجازر ريف اللاذقية التي استهدفت قرى علوية شبه منزوية، إلى قصف الهاون العشوائي الذي حوّل أحياء دمشق وريفها، تحرّكت الفصائل الجهادية كقوّة تعبئة وتوحيد لخطوط الاشتباك، مستثمرةً الغطاء التضاريسي في الساحل ومنافذ التهريب في الغوطة الغربية.

بعد سقوط حكم البعث ودخول هيئة تحرير الشام كتحالف لتلك الفصائل الجهادية تحول المشهد السوري بالكامل، فمع إعادة ترتيب الدولة السورية من جديد وتشكيل الحكومة الانتقالية؛ يقف هذا الإرث الدموي عقبةً أمام أي صفقة أمنية – إقليمية أو دولية تبحث في دمج أو ترحيل تلك المجموعات التي ما زالت تمسك بمفاتيح النار والتهديد عبر جيوبها المتبقية.

ظلّ نحو 10 آلاف مقاتل جهادي أجنبي في سورية حتى ربيع 2025، غالبيتهم يتركّزون في ريف إدلب والجبال الساحلية، ينقسم هؤلاء إلى خمس كتل رئيسة: الإيغور (الحزب الإسلامي التركستانيTIP) ومقاتلو آسيا الوسطى (أوزبك وقرغيزيون)، القوقازيون، حُرّاس الدين والمقاتلون العرب، ثمّ الأوروبيون ومتعدّدو الجنسيات، وتطالب واشنطن بإقصاء هذه الفصائل عن مفاصل الجيش والحكم كشرط لرفع العقوبات والاعتراف بالسلطة في دمشق، بينما تحاول القيادة السورية دمج بعضها ومنح الجنسيّة لقادتها .

أولا: أبرز الفصائل الأجنبية الباقية

شكل الانحسار العددي في صفوف “داعش”، وتفكُّك كثير من فصائل المقاتلين الأجانب خلال السنوات الماضية تعبيرا عن تحول في ميزان القوى، لكن النواة التي بقيت في الشمال الغربي تمثل اليوم مزيجا فريدا من الفصائل العابرة للحدود، فكتائب الإيغور والأوزبك التي تشكِّل قوةً قتالية متماسكة بفضل روابطها الإثنية واللغوية؛ ومجموعات القوقازيين ذات الخبرة الجبلية العالية، إلى جانب حُرّاس الدين وبقايا الجهاديين العرب الذين يُعدّون الامتداد المباشر لتنظيم القاعدة، وهذه الفصائل، وإن تباينت عقائديا وتنظيميا، تتقاطع جميعاً حول ثلاثة محددات: تمسُّكها بمناطق تموضع وعِرة تؤمِّن لها خطوط تهريبٍ مستقلة، وقدرتها على تجنيد عناصر محلية عبر خطاب طائفي أو حوافز مالية، وأخيراً امتلاكها شبكات دعم خارجية من جمعيات خيرية في آسيا الوسطى إلى وسطاء سلاح في السوق السوداء التركية، وبقاء هذه التركيبة يجعلها رقما صعبا في أي معادلة أمنية مقبلة، ويمنحها قدرة ابتزاز سياسي لكل من أنقرة وبكين ودمشق معاً، والجدول التالي يوضح توزع هذه المجموعات داخل الوضع السوري الحالي:

الكتلةالحجم التقريبي 2025مناطق الانتشارملاحظات على دورها السياسي
TIP – الإيغور≈ 4 000 مقاتلجسر الشغور – ريف اللاذقيةحصل ثلاثة ضباط إيغور على رتبة عميد/عقيد في الجيش الجديد، ما أثار قلق الصين والولايات المتحدة
أوزبك وقرغيز (KTJ، KIB)≈ 2 000 (KTJ 500 – KIB 1 000+)جبل الزاوية – أريحاتقرير Nordic Monitor يتهم الاستخبارات التركية باستثمارهم كوكلاء إقليميين
القوقازيون (أجناد القوقاز، جنود الشام)≈ 300 مقاتل نشط (بعد انتقال معظمهم إلى أوكرانيا)جبال الساحلنفوذ رمزي في المعارضة، يرفضون الاشتراك في حكومة الشرع «إلّا بعد جلاء الروس»
حُرّاس الدين وعرب آخرون≈ 2 500 مقاتل بعد استنزاف الغارات الأميركيةسهل الغاب – جبل الزاويةتُصنِّفهم واشنطن كامتداد مباشر للقاعدة وتَعُدّ إقصاءهم شرطاً أساسياً للاعتراف بالحكومة
أوروبيون وسائر الجنسيات≈ 1 200 متطوّعداخل وحدات HTS السابقةيطالب الاتحاد الأوروبي بمحاكمتهم أو ترحيلهم، وتعرقلهم قوانين الجنسية السورية الجديدة

ثانياً: أثر المجموعات على علاقات سورية الجديدة

تشترط واشنطن “عدم إشراك أي كيان مصنَّف إرهابياً” في أجهزة الأمن أو الحكم، وهذا الأمر هو أمر واقع داخل المؤسسة السورية الحاكمة، ويشكل معضلة حقيقية للتوازن بين الفصائل التي لا تشكل كتلة واحدة بل حالة مؤثرة على قدرة السلطة في دمشق على الاحتفاظ في سوريا، بينما تراقب الإدارة الأمريكية عن كثب تعيين الإيغور والأوزبك في الجيش، ورفض الامتثال يُبقي “قانون قيصر” والعقوبات سارية.

في نفس الوقت فإن العديد من التقارير الاستخباراتية تتهم أنقرة بمواصلة استخدام مقاتلين أوزبك وأيغور كأدوات نفوذ عابرة للحدود، ما يضع دمشق أمام اختبار سيادة في الشمال، في وقت تضغط بكين لترحيل عناصر TIP وتعتبر بقائهم تهديداً مباشراً لأمن شينجيانغ، أما موسكو ترفض دمج القوقازيين الذين قاتلوا ضدّ قواتها وتربط مساعدة إعادة الإعمار بتسليمهم أو إبعادهم.

عمليا فإن مسار تطور وجود القوات الأجنبية يعطي صورة مقلقة ليس بسبب تطور الأوضاع ارتفاعا وانخفاضا، بل في تأثيرها على كامل الحالة الفصائلية التي تعتبر اليوم جزء من المشهد السوري، ويبين الجدول التالي تطور حالة الجهاديين في سوريا منذ عام 2012:

سنةتقدير Soufan (كل الأجانب)تقدير يُركّز على الجهاديين غير السوريين
20123 – 4 آلاف thesoufancenter.org≈ 3 آلاف
20138 آلاف≈ 8 آلاف
201418 ألف≈ 18 ألف
2015 (الذروة)27 – 31 ألف theguardian.com≈ 27 ألف
201625 ألف≈ 25 ألف
201718 ألف≈ 18 ألف
201812 ألف≈ 12 ألف
201910 ألف≈ 10 ألف
20208 ألف≈ 8 ألف
20218 ألف≈ 8 ألف
20228 ألف≈ 8 ألف
20239 ألف (عودة بعض العناصر من السجون)≈ 9 ألف
202410 ألف (بعد سقوط النظام)≈ 10 ألف
202510 ألف (تقدير حالي)≈ 10 ألف

في التمثيل البياني لواقع التواجد للفصائل الجهادية الأجنبية لسورية يمكن النظر لهذا الواقع وفق تصورين: الأول هو الرسم التراكمي وفق هذا الشكل:

تكشف خطوط الرسم التراكمي عن “منحنى جرس” كلاسيكي: صعودٌ شبه عمودي بين عامَي 2012 و2015 بلغ ذروته بقرابة ثلاثين ألف مقاتل أجنبي، تَبعَه هبوط متسارع مع انهيار “داعش” ثم استقرارٌ منذ 2020 عند عتبة ثابتة تدور حول عشرة آلاف مقاتل.

هذا الاستقرار يدلّ على نواة صلبة يصعب اجتثاثها بالقوة وحدها؛ فهي تعيد إنتاج نفسها كلّما أُتيح لها فراغ أمني أو منفذ تمويل جديد، واللافت أنّ ذروة 2014-2015 لم تتكرّر رغم تجدد موجات العنف، ما يوحي بأنّ بيئة التجنيد العابرة للحدود فقدت جاذبيتها إلى حدّ كبير، بينما بقي المخزون المتبقّي أكثر تكيّفا مع العمل السرّي والخلايا الصغيرة.

وعلى مستوى التركيبة الداخلية، تُظهر الألوان المتراكمة في الرسم تحوّلاً هادئاً ولكن عميقا، فبينما تراجعت حصّة الأوروبيين والقوقازيين بعد 2017 إما بالعودة إلى أوطانهم أو انتقالهم إلى جبهات أخرى مثل أوكرانيا والساحل الأفريقي ، وأخذت كتلة الإيغور ومقاتلي آسيا الوسطى تتضخم تدريجيا، حتى باتوا يشكّلون معاً نصف العدد الإجمالي سنة 2025، وقدرة هؤلاء على البقاء تعود إلى بنيتهم الاجتماعية المُغلَقة (لغة مشتركة، شبكات أسرية) وتسهيلات لوجستية يوفّرها الشمال السوري عبر الحدود التركية.

أما الشكل الثاني فهو على مستوى التركيب الداخلي، يبيّن الرسم الدائري أنّ حُرّاس الدين وبقايا الجهاديين العرب عادوا إلى الواجهة بعد 2024، مدفوعين بعمليات الإفراج عن معتقلين وشبكات تمويل صغيرة تركز على الغوطة الغربية وسهل الغاب.

هذا التوزيع الجديد يضع الحكومة الانتقالية أمام معادلة حسّاسة: الولايات المتحدة تركّز على استبعاد حُرّاس الدين شرطاً للاعتراف، في حين تضغط الصين وروسيا لإبعاد الإيغور والقوقازيين أولاً، لأنهم يمثّلون تهديداً مباشراً لأمنهما القومي، بذلك تتحوّل الفصائل الجهادية إلى “فيتو أمني” بيد القوى الإقليمية، فأنقرة تستطيع استخدامها كرافعة تفاوضية ضدّ الأكراد، وبكين تلوّح بورقة “الإيغور” في مجلس الأمن، وموسكو تربط أي دعم لإعادة الإعمار بتسليم مقاتلي القوقاز.

ويحمل المسار ثلاثة اتجاهات رئيسية. الأول دمجٌ انتقائي بضمانات تركية يُبقي بعض المقاتلين الآسيويين في وحدات حراسة حدودية، وهو سيناريو يخفف الضغط الغربي لكنه يفاقم قلق بكين، والثاني عملية اجتثاث مشتركة برعاية أممية يتم فيها ترحيل معظم الإيغور والآسيويين إلى دولهم، ما يخفض العدد الكلّي إلى نحو ستة آلاف لكنه يتطلّب توافقا صعبا بين أنقرة ودمشق، أمّا السيناريو الأسوأ فيتجسّد في فراغ أمني شمال غرب البلاد إذا انسحبت تركيا بلا ترتيب؛ عندها فإن احتمال إعلان الفصائل الآسيوية “ولاية شامية” احتمالا كبيرا، الأمر الذي سيعصف بأي مسار اعتراف دولي، ويفجّر موجة نزوح ضخمة، ويعيد خطر التسلل إلى أوروبا. وفي جميع السيناريوهات يبقى الرقم السحري الذي يكشفه الرسم عشرة آلاف مقاتل راسخين هو العائق الأكبر أمام استقرار حقيقي في سوريا ما بعد الحرب.

ملاحظة: تقديرات ما بعد 2020 مبنية على دمج بيانات الأمم المتحدة، سوفران، ومصادر ميدانية تتقاطع مع أحجام الفصائل المذكورة أعلاه؛ هامش الخطأ ± 15 %.

1 فكرة عن “من سفوح اللاذقية إلى ضواحي دمشق: كيف أعادت الفصائل الجهادية رسم خطّ النار”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *