تحوّلت الساحة السورية منذ كانون الأول 2024 إلى ميدان صراع جيوسياسي مفتوح، تجاوز في مضمونه الاعتداءات العسكرية الظرفية إلى إعادة صياغة موازين الأمن في “الشرق الأوسط”، فـ”إسرائيل” عبر حملتها الجوية المركّزة، تسعى فعليا إلى تثبيت معادلة ردع جديدة، تُعيد تعريف حدود الاشتباك ومفاهيم السيادة في الإقليم.
الهجمات “الإسرائيلية” المكثفة لم تُنفذ في فراغ، بل جاءت في لحظة انهيار داخلي سوري وارتباك دولي، لتُقدّم تل أبيب نفسها لاعبا يُملي قواعد اللعبة لا مجرد طرف فيها، ومع تصاعد استهداف المطارات والمراكز العسكرية الحيوية، يتكشّف مشروع أوسع: تفكيك بنية الدولة السورية وتحييدها طويلا كفاعل مستقل، بما يرسّخ هيمنة أمنية إسرائيلية على المشرق، تحت غطاء الاستباق والدفاع.
تُسوّق تل أبيب هذه الضربات على أنها “دفاعية”، لكن الوقائع الميدانية تكشف أن ما يجري يتجاوز الاستهدافات التكتيكية إلى ما يشبه إعادة رسم خرائط النفوذ والأمن في المشرق، فاللحظة الفاصلة في سوريا كانت في الانتقال من “قوة الدولة” إلى “إدارة صراع الفصائل”، فـ”هيئة تحرير الشام” التي دخلت دمشق بشعارات “التحرير” أنهت عبر التوافق الدولي “التاريخ السياسي” لسوريا من الاستقلال.
إعادة إحياء رؤية “إينون“
في صلب الحملة “الإسرائيلية” يظهر من جديد ما يُعرف بـ”خطة أوديد إينون”، وهي وثيقة نُشرت عام 1982 في مجلة “كيفونيم” الإسرائيلية، واقترحت آنذاك أن السبيل الأمثل لتأمين إسرائيل على المدى البعيد يكمن في تفتيت العالم العربي إلى كيانات إثنية وطائفية متنازعة، وضرب مراكز القوة المركزية في دول الجوار، وعلى رأسها سوريا.
ورغم أن الخطة لم تُعتمد رسمياً كسياسة، إلا أن ما يجري على الأرض اليوم يُحاكي مقترحاتها بشكل لافت، خاصة فيما يتعلق بإضعاف سوريا عسكرياً، واستغلال الانقسامات الداخلية، وترسيخ النفوذ الإسرائيلي في الجولان المحتل كخط دفاع أول.
تسلسل الضربات وتوسّع الأهداف
بدأت الحملة الإسرائيلية في 8 كانون الأول بقصف مجمّع أمني ومركز أبحاث في دمشق، قالت إسرائيل إنه مرتبط بتطوير صواريخ إيرانية، وفي اليوم التالي، امتدت الضربات إلى محافظتي درعا والسويداء، مستهدفة قواعد ومخازن ذخيرة.
في 20 كانون الأول، توسعت العمليات لتشمل مناطق جنوب اللاذقية وهضاب قريبة من الجولان، بالتزامن مع تجديد تفويض الأمم المتحدة لقوات الفصل هناك، وبين كانون الثاني وآذار 2025، بلغت الضربات ذروتها، مستهدفة مطاري حماة وتدمر، إضافة إلى منصات دفاع جوي في اللاذقية وحمص، وفي نيسان، تم قصف مطاري دمشق وحلب، ما أسفر عن مقتل العشرات من عناصر الميليشيات المرتبطة بالسلطة في دمشق، ثم جاء قصف محيط القصر الجمهوري في 2 أيار ليحمل رسالة سياسية واضحة بأن لا شيء محصّن.
يقدم الرسم البياني التالي نوعية الضربات وعددها منذ نهاية 2024:

الأهداف المعلنة والمضمرة
الهدف الظاهر من هذه الضربات هو تقليص “الدفاع عن الأقليات” بعد أن فشلت الحكومة الانتقالية في إيجاد سياسة وطنية جامعة، وعجزت عن ضبط عناصر الفصائل المسلحة التي من المفترض أنها حلت نفسها، غير أن التحليل الجيوسياسي يُظهر أن الأهداف تمتد إلى:
- تفكيك الترابط الجغرافي بين سوريا ولبنان.
- استنزاف القدرات السورية عسكرياً واقتصادياً.
- تعزيز الحضور العسكري الإسرائيلي في الجولان.
- استخدام خطاب “حماية الأقليات” لتغذية النزعات الانفصالية، خاصة في مناطق جبل العرب المتاخمة لحدود “إسرائيل”.
الجولان.. ليس مجرد منطقة فاصلة
انتهت اتفاقية فصل القوات تماماً بعد 8 كانون الأول 2024، فالحاجة لمفاوضات جديدة أصبحت جزءاً من التفكير بأي حل للأزمة السورية، فالجولان لم يعد مجرد منطقة فاصلة بين سوريا و”إسرائيل”، كما نصت اتفاقية فك الاشتباك عام 1974، بل تحوّل في السنوات الأخيرة، وتحديداً منذ اندلاع الحرب السورية، إلى مركز ثقل استخباراتي وعسكري متقدّم، ويشكّل نقطة انطلاق رئيسية للعمليات “الإسرائيلية” داخل العمق السوري، وعلى امتداد الهضبة أنشأت “إسرائيل” بنية تحتية عسكرية متطورة تضم محطات رادار، منصات إطلاق، نقاط مراقبة حرارية، وطائرات مسيّرة تعمل على مدار الساعة.
الهضبة المرتفعة تمنح إسرائيل ميزة جيوستراتيجية استثنائية، فهي تطل على الجنوب السوري بالكامل، وتوفّر قدرة رصد دقيقة للتحركات السورية، وغدت هذه المنطقة امتداداً مباشراً لما تسميه “إسرائيل”: “الخط الأمامي للدفاع”، وهو المفهوم الذي ورد بوضوح في خطة أوديد إينون كمحدد أول لـ”لأمن الإسرائيلي” في الجبهة الشمالية.
المثير أن الجولان لم يعد يُستخدم فقط كحاجز دفاعي، بل كمنصة هجوم وإشراف عملياتي، بما يشبه غرفة عمليات مفتوحة تُدار منها الضربات الجوية، وتُوجّه منها سياسة “الحدود الذكية” التي تقوم على التدخل السريع، والاستخبارات اللحظية، والضربات الموجّهة وفقاً لمعادلات الردع المتغيرة، فالسيطرة على الجولان لم تعد ورقة تفاوض، بل أحد أعمدة الأمن الإسرائيلي الإقليمي، لا سيما في ظل التصدّع السوري والانكفاء العربي.
صمت دولي وتفاهمات خفية
مع غياب الدور الإقليمي لسوريا بعد انهيار “المنظومة” التي كانت سائدة قبل 2025، فإن الأثر الدولي أصبح مجرد ردود عادية فرغم تكرار الأمم المتحدة دعوتها لاحترام السيادة السورية، ووقف الانتهاكات لاتفاق فك الاشتباك لعام 1974، فإن الردود الدولية جاءت باهتة:
- موسكو وطهران أدانتا الضربات بشدة ووصفتاها بمحاولة لإعادة رسم توازنات المنطقة.
- واشنطن اكتفت بالتعبير عن “القلق” دون اتخاذ مواقف عملية.
- الدول العربية طالبت بدور جماعي لاحتواء التصعيد، لكنها بقيت دون تأثير مباشر.
نحو “نموذج الدولة المفككة“
ما يجري في سوريا اليوم لا يمكن وصفه فقط بأنه حملة عسكرية، بل هو عملية “إدارة تفكك” ممنهجة، فمع كل غارة تضعف إمكانية خلق ممكنات للدولة من أجل بناء قوتها، ويُرسّخ واقع السيطرة المسلحة للميلشيات والانقسامات الإثنية.
تبدو الدولة السورية، كما توصف في تقارير متعددة، متجهة نحو نموذج الدولة المفككة، حيث تغيب المركزية، وتتحوّل الأطراف إلى مناطق نفوذ متنازع عليها، هذا الواقع يخدم بشكل مباشر الرؤية التي طرحتها خطة إينون قبل أكثر من أربعة عقود.
حققت “إسرائيل” تفوقاً استخباراتياً وميدانيا ًفي المدى القصير، لكن تداعيات هذه الحملة تتعدى الحسابات الأمنية، وتهدد بجعل سوريا بؤرة تفكك دائم، ومصدر توترات مستمرة في المنطقة، وهذا الأمر يتطلب واقعاً سياسياً سورياً مختلفاً عن الوضع الحالي، فضرورة الجامع الوطني اليوم أمر أساسي للبدء بطريق بناء قوة الدولة ومنع تفكك سوريا.