ترامب والشرع: اختبار إرادات في لحظة انعطافٍ تاريخية

حين يلتقي رئيسٌ أميركي برمزٍ سوريٍ كان إلى عهدٍ قريب على قوائم الإرهاب، فإنّ المشهد لا يذكرنا فقط ببراغماتية السياسة الدولية، بل أيضاً بطبيعة “اللعبة طويلة الأمد” في مسار علاقة واشنطن بدمشق، فالرئيس المؤقت أحمد الشرع الذي يعرفه السوريون والعالم كزعيمٍ سابق لجبهة النصرة؛ لم يصبح شريكا مرغوبا إلا لأن الحرب غيّرت البنى السلطوية وأعادت تشكيل خرائط المصالح.

أمّا دونالد ترامب، العائد إلى الواجهة عبر جولة خليجية، فيجد في هذا اللقاء فرصة لصوغ سردية “صانع الصفقات” بعد سنوات من جنوح الدولة الأميركية العميقة نحو سياسات الاحتواء والعقوبات.

ديناميات إعادة التموضع

بحسب ما أوردته صحيفة New York Post، وافق ترامب مبدئيّا على جلسة تستغرق 45 دقيقة مع الشرع خلال قمة مجلس التعاون الخليجي – الولايات المتحدة في الرياض، ونقطة التلاقي الظاهرة هي إعادة إعمار سوريا، لكن خلفها تكمن اعتبارات أكثر تعقيداً:

  • الشرع يريد رفع العقوبات لإطلاق عجلة الاقتصاد وإضفاء شرعية دولية على حكومته الانتقالية.
  • ترامب يبحث عن إنجاز سياسي في الشرق الأوسط يعيد صقل صورته الانتخابية ويعيد ترتيب أولويات الأمن القومي بعيدا من الهيمنة الإيرانية.
  • الرياض، بوصفها المضيف، تسعى إلى هندسة توازنات تجنبها الانخراط العسكري المباشر وتفتح بوابة الاستثمار في إعادة الإعمار.

في وثيقة عرضها الشرع على فريق ترامب وفق ما ورد في Roya News جاءت ثلاثة إغراءاتٍ رئيسية:

  1. مشروع “برج ترامب دمشق” كرهان رمزي على استثمار عقاري فخم يكرّس حضور العلامة التجارية لترامب ويُحدث صدمة نفسية إيجابية في أسواق المال السورية والخليجية.
  2. امتيازات النفط والغاز: وذلك عبرمنح شركات أميركية حقوق تطوير الحقول في البادية ودير الزور، ما يهمش النفوذ الروسي ويعيد توازن سوق الطاقة الإقليمية.
  3. حزمة أمنية–إسرائيلية: بإنشاء منطقة منزوعة السلاح جنوبا، مع ترتيبات مراقبة إسرائيلية “محدودة” قرب الجولان، ما يلبي مطلبا أميركيا – إسرائيليا ويمنح الشرع دفعة باتجاه الاعتراف الدولي.

بالمنهج المقارن فإن هذه العروض تذكر بخيارات حافظ الأسد مطلع التسعينيات حين حاول مقايضة الانفتاح الاقتصادي بصفقة السلام، والفارق الآن أن الشرع يفاوض من موقع هشاشة داخلية قصوى ومن موقع الضعف والبحث عن الشرعية.

برجماتية يصارعها الإرث

منذ تولّيه السلطة مجددا لم يُخفِ ترامب ضيقه بالعقوبات “التي تبقي دمشق رهينةً لنفوذ طهران”، غير أن فريق الأمن القومي منقسم:

  • معسكر البراغماتيين يرى فرصة لفصل دمشق عن موسكو وطهران، مستندا إلى طلبات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بفتح قنواتٍ مع الشرع لاحتواء “قسد” وكبح التمدّد الكردي.
  • معسكر الصقور وفيه البنتاغون وبعض أجنحة الحزب الجمهوري يحذّر من “تبييض تاريخ الجولاني” ويفضّل الإبقاء على العقوبات كورقة ضغط حتى تثبت الحكومة الانتقالية قدرتها على تفكيك البنى الجهادية.

إن مؤسسة الأمن القومي الأميركية تتبنى مقاربة مُحافِظة تجاه التغيير المفاجئ في دمشق؛ وهي مقاربةٌ تُفضّل “الاستمرارية القابلة للإدارة” على “المغامرة غير المضمونة”، ويصبح قرار ترامب رهناً بقدرته على إقناع الكونغرس بأنّ المصالح تتجاوز المخاطر الأخلاقية.

عمليا فإن الرياض ترى في الاجتماع اختبارا لقدرتها على لعب دور الوسيط الإقليمي بعدما تراجعت واشنطن عن قيادة الملفات الدقيقة، واحتضانها اللقاء يُعطي رسالة بأنها قوة النظام الإقليمي المُعاد تعويمه، أما تركيا تستثمر في الشرع بصفته خصما شرعياً لوحدات الحماية الكردية؛ إنها تفضل انتقالا سورياً يحفظ لها نفوذا شماليا بلا كوابح أميركية.

أما “إسرائيل” فما دامت مقايضة “الهدوء مقابل التطبيع الأمني” مطروحة، فإنّ تل أبيب تقبل برئيس سوري لا يرفع لواء المقاومة طالما يلتزم بخفض التصعيد على جبهة الجولان.

هذه المصفوفة المعقّدة تشبه “ميزان قوى متحرك” حيث تسعى الأطراف إلى مكاسب تكتيكية سريعة ريثما تتضح ملامح النظام الإقليمي فيما بعد ما بعد الربيع العربي.

لم يكن استقبال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للشرع نهاية الأسبوع الفائت لفتة دبلوماسية؛ إنما إيذان بعودة أوروبا إلى سباق إعادة الإعمار، وفرنسا ترى في الاستثمار بسوريا فرصة لتعويض تراجع نفوذها في الساحل الإفريقي، والتنافس مع واشنطن أساسي نتيجة تردد الإدارة الأمريكي في التحرك تجاه دمشق

حسابات الشرع الداخلية: شرعية تحت الاختبار

إضافةً إلى التحديات الخارجية، على الشرع أن يوازن بين:

  • تحالفاته الفصائلية: فقادة الفصائل السلفية الذين قبلوا بالانتقال السياسي يتخوفون من عودة الهيمنة الأميركية.
  • المجتمع المدني: الذييطالب برفع العقوبات المشروطة بإصلاحات مؤسسية ومحاكمة مرتكبي الجرائم.
  • قوى الثورة القديمة: وبعضها يرى في التطبيع مع ترامب «بيعاً لدماء الشهداء» ما لم يُترجم إلى مكاسب واضحة في العدالة الانتقالية.

يحتاج الشرع ليُحافظ على تماسك حكومته لاتفاقَ شراكة يرتكز إلى “سلامٍ اقتصادي” يوفر وظائف سريعة ويحد من تهريب السلاح، وهي وصفةٌ “رافعة استقرارٍ قصير الأجل” في حالات ما بعد الصراع.

سيناريوهات ما بعد اللقاء

يمكن تقسيم المخرجات إلى ثلاثة سيناريوهات:

السيناريوجوهر الصفقةالمكاسبالمخاطر
انفراج محدودتخفيف جزئي لقانون قيصر مقابل تعاون أمني واستخباراتيشراكات طاقة وتمويل خليجياعتراض الكونغرس، احتمال التفاف موسكو
صفقة كبرىرفع شامل للعقوبات + إعادة انتشار إيرانيإعادة الإعمار، اندماج تدريجي في النظام الدوليمقاومة الحرس الثوري، هجمات «داعش» انتقامية
فشل اللقاءلا اتفاق، استمرار الضغطالحفاظ على أوراق الضغط الأميركيةعودة الفوضى الاقتصادية في دمشق، توتر حدود الجولان

“زمن الصفقات” أم “فجر العُزلة”؟

أن لحظات التحوّل الكبرى في تاريخ العلاقات الأميركية–السورية غالبا ما ولّدت “توقعات أعلى من قدرة الأطراف على تحقيقها”، فلقاء ترامب – الشرع إن حدث يفتح نافذة ضيّقة تستمر أشهراً قبل أن تصطدم بجدار الحسابات الانتخابية الأميركية أو التوازنات العسكرية على الأرض، غير أنّ الإخفاق هذه المرة أكثر كلفة، فعلى عكس حقبة الأسد الأب حيث كان النظام متماسكاً، تُواجه سوريا الراهنة فراغا مؤسسياً يجعلها عرضة لتفتتٍ إضافي إذا أُغلق مسارُ رفع العقوبات من غير بدائل.

هناك خريطة طريقٍ تتقاطع فيها مطامع الاستثمار الأميركي مع شغف الإدارة الانتقالية بشرعية دولية، وإذا ما أراد ترامب والشرع تجاوز منطق الصفقات المؤقتة إلى “سلامٍ بنيوي”، فعليهما الاستجابة لثلاثة شروطٍ: معالجة قضية اللاجئين بوصفها اختبارا أخلاقيّا، بناء مؤسسات أمنية محترفة، والقبول برقابةٍ دولية على مسار العدالة الانتقالية.

عند ذاك، يتبدد إرث عقدٍ من الحرب، وتتحول صورة “الجهادي السابق” و”رجل الصفقات” إلى لحظةٍ تاريخية تُعيِد تعريف ما تعنيه كلمة «براغماتية» في الشرق الأوسط.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *