قضية إيلي كوهين صراع الروايات والسيادة السورية المجروحة

تُعيد عملية استعادة أرشيف الجاسوس الإسرائيلي إيلي كوهين، التي كُشف عنها في 18 مايو 2025، فتح جرح سياسي لم يندمل في الصراع السوري – “الإسرائيلي”، فالقضية لا تتعلق برفات عميل أُعدم منذ ستين عاما، بل تمثل حلقة معقدة في لعبة السيادة والسيطرة النفسية بين عدوين لم يوقعا اتفاق سلام رسمي منذ عام 1948.

بينما تسعى “إسرائيل” لتكريس أسطورتها الاستخباراتية وتثبيت شرعيتها التاريخية، تجد دمشق نفسها مضطرة للتعامل مع وقائع تعيد تعريف حدود سيادتها المنهكة، فهذه ليست العملية الأولى حيث سبقتها استعادة رفاة جنود “إسرائيليين” قتلوا في معارك لبنان 1982.

إعادة تعريف القضية بعد 8 كانون الأول 2024

ما بعد الثامن من كانون الأول 2024 يشكل نقطة تحول حساسة في السياق السياسي الإقليمي، مع انتهاء السلطة السياسية السورية، ووسط تراجع يبدو نهائيا للنفوذ الإيراني داخل الأراضي السورية، تحرك الموساد “الإسرائيلي” لاستعادة مقتنيات كوهين في عملية سرية مشتركة مع جهة استخباراتية أجنبية لم يُكشف عنها، وهذه العملية، التي تم الإعلان عنها في الذكرى الستين لإعدام كوهين، لم تكن محض تكريم رمزي، بل تموضع استراتيجي ورسالة موجهة لكل من الداخل “الإسرائيلي” والخصوم الإقليميين.

هذا التطور يحوّل قضية كوهين من قصة تجسس تاريخية إلى أداة ضغط دبلوماسي وإعلامي، وبشكل مفاجئ أصبح النقاش لا يدور حول ما فعله كوهين في الماضي، بل حول ما يعنيه اليوم لسوريا و لـ”إسرائيل” وللمنطقة.

مفهوم السيادة السورية في سياق الانكشاف الأمني

من منظور القانون الدولي، السيادة لا تتجزأ، لكنها في الحالة السورية تبدو مفككة بفعل عوامل متعددة: وجود قواعد عسكرية أجنبية، تعدد أجهزة النفوذ، وتدخلات استخباراتية إسرائيلية متكررة منذ 2011 على شكل غارات جوية واستهدافات دقيقة، ويضاف إليها والآن عملية استخباراتية نوعية تمت، حسب المصادر “الإسرائيلية”، في قلب دمشق، دون أن أي رد سوري رسمي وعلني ذي قيمة حتى كتابة هذه السطور.

السؤال ليس فقط عن “كيف تمت العملية؟”، بل “ماذا تبقى من السيادة السورية عندما يُنتزع منها أرشيف أمني مرتبط برمز تاريخي؟”، وفي زمن باتت فيه الجغرافيا السورية ميدانا مفتوحا للنفوذ الأميركي والتركي؛ تأتي عملية أرشيف كوهين لتسلط الضوء على فراغ السيادة، لا سيما في المجال الاستخباراتي، الذي يفترض أن يكون الأشد حصانة لأي دولة.

السردية “الإسرائيلية”: توسيع حدود الرمزية الأمنية

من منظور “إسرائيلي”، إيلي كوهين ليس مجرد عميل استخبارات؛ إنه أحد رموز تأسيس “الأسطورة” الأمنية للدولة العبرية، وإعادة مقتنياته الشخصية تقدم أداة لإعادة تشكيل الذاكرة العامة، فالرسائل المكتوبة بخط يده، ومفاتيح شقته الدمشقية ووصيته، وصوره مع مسؤولين سوريين؛ كلها عناصر تستخدم لبناء سردية انتصار لا تزال حية، حتى بعد ستة عقود.

إعادة هذه المواد جاءت في وقت تعاني فيه “الحكومة الإسرائيلية” من أزمات داخلية خانقة بعد حرب غزة 2024، وانقسامات حزبية، وتراجع ثقة الجمهور في الأجهزة الأمنية، وتحويل كوهين إلى “بطاقة معنوية رابحة” كان توقيته مدروسا بعناية.

صمت يعكس التآكل البنيوي

لم تصدر الحكومة السورية أي موقف تفصيلي حول كيفية استعادة “إسرائيل” أرشيف كوهين من دمشق، وهذا الصمت يمكن قراءته من زاويتين: الأولى، أنه انعكاس لتفكيك النظام الأمني وحل الجيش، وتغلغل أطراف أجنبية في مفاصل القرار الأمني الجديد، والثانية، أنه تَجنُب لإثارة المزيد من الجدل في لحظة يعاني فيها النظام الجديد من أزمة شرعية داخلية وانكشاف أمام الرأي العام المحلي.

لكن الأهم أن هذا الصمت يعمق الإحساس بأن الدولة السورية لم تعد تتحكم حتى في رموزها التاريخية، أو أنها لا تعنيها، فإيلي كوهين الذي أُعدم باسم الدفاع عن السيادة، يُنتزع من روايتها الرسمية ويُعاد تشكيله من قِبل العدو، فـ”إسرائيل” وضعت نفسها، عبر هذه العملية، في موقع الفاعل الحر الذي يستطيع الوصول حتى إلى “قلب دمشق” دون تكلفة واضحة، وهذا يُترجم سياسيا إلى مساحة أكبر من المبادرة الإسرائيلية في ملفات أخرى مثل الجولان، الجنوب السوري، وملف حزب الله.

على الجانب الآخر، تُظهر العملية تآكل قدرة دمشق على المبادرة السياسية أو الأمنية، فبينما تعاني سوريا من عزلة دبلوماسية رغم محاولات العودة إلى الجامعة العربية، تأتي هذه الحادثة لتؤكد أن السلطة الجديدة تريد إنهاء الرمزية الخاصة بـ”المقاومة” القديم، لأنها خارج أجندتها.

قضية إيلي كوهين مجرد صفحة في كتاب الاستخبارات الإسرائيلية، لكنها بالنسبة لسوريا مرآة مؤلمة تُظهر هشاشة بنيتها الأمنية والرمزية، وفي عالم السياسة، لا تنتصر الروايات القديمة إلا إذا كانت قادرة على الاستمرار في الحاضر، فبينما تُعيد “إسرائيل” بناء صورة كوهين كبطل قومي، تصمت سوريا كأنها تود نسيان أنه كان موجود أساسا.

ما حدث بعد 8 كانون الأول 2024 ليس تذكيرا بتاريخ مضى، بل إعادة توجيه لبوصلة السرديات، وهو ما يفهمه صناع القرار في تل أبيب جيدا، فالمسألة اليوم لم تعد عن إيلي كوهين… بل عمّن يملك الحق في قول الحقيقة، ومن يملك القوة على فرضها، فالرواية والشرعية هما سلاحان بحد ذاتهما، وفي هذه الحالة، تكسب “إسرائيل” جولة جديدة دون إطلاق رصاصة، فقط عبر السيطرة على سردية موت أحد عملائها.

1 فكرة عن “قضية إيلي كوهين صراع الروايات والسيادة السورية المجروحة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *