العقوبات على سوريا: ماذا تقول لنا البيانات حقا؟

تشكل العقوبات الأمريكية على سوريا حجر الزاوية في سياسة الضغط على النظام السوري. تبدأ بالقوانين التنفيذية وتنتهي بقيود على التحويلات العائلية، لكنها في مجموعها تخلق بيئة خانقة للاقتصاد، وتطرح سؤالاً بسيطا بصياغة: هل الأرقام تسند النوايا المعلنة؟

إذا حاولنا عدم أخذ الخطاب السياسي كمسلمات، وقمنا بتفكيكه رقمياً لنبحث عن التباينات والآثار الجانبية، والنتائج غير المقصودة والعقوبات، فإن تلك العقوبات يفترض أنها تستهدف النظام، لكن ماذا تقول لنا البيانات؟ وماذا عن الشعب؟

خريطة العقوبات: 16 نوعا، فهل التأثير متجانس؟

لدينا 16 عقوبة أساسية مفروضة على سوريا، أقدمها تعود إلى عام 1979 حين وُضعت سوريا على لائحة الدول الراعية للإرهاب، وأحدثها جاءت عام 2023، واستهدفت فرقة السلطان سليمان شاه وتجارة الكبتاغون، ونلاحظ هنا ثلاثة أنماط زمنية واضحة:

  1. المرحلة الكلاسيكية:  (1979-2003)تركّزت على دعم “الإرهاب” وإنتاج الأسلحة.
  2. مرحلة ما بعد 2003: دخول قانون محاسبة سوريا، مع تصعيد تدريجي في العقوبات.
  3. مرحلة ما بعد 2011: الانفجار الكبير في العقوبات، تزامنا مع الحرب في سوريا، ثم قوننتها عبر قانون قيصر في 2019.

إن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا إحصائي بالدرجة الأولى: هل هذه الزيادة الكمية في العقوبات تعني بالضرورة زيادة في التأثير؟ أو، بصياغة أدق، هل كل عقوبة تنتج نفس الأثر؟ الإجابة: لا.

حين تتحدث الأرقام: أي العقوبات كانت الأكثر فاعلية؟

إذا صنفنا العقوبات حسب التأثير الكمي الملموس، تظهر لنا ثلاث فئات:

  1. عقوبات عالية التأثير اقتصاديا:
  • قطاع النفط والطاقة  (2011)الإنتاج انخفض من 380,000 برميل يوميا إلى مستويات متدنية، وليس مجرد رقم في الموازنة بل انهيار رافعة اقتصادية كانت تموّل الدولة.
  • تجميد الأصول السورية في الخارج: أوقفت تمويل مشاريع حيوية.
  • قانون قيصر: أثّر على الشركات الأجنبية المرتبطة بسوريا، ووسّع الضرر أفقيا ليشمل حتى المستشفيات والبنوك.
  • عقوبات عالية التأثير الاجتماعي:
  • منع التكنولوجيا:  (2012)لم تمنع النظام من المراقبة، لكنها منعت الجامعات والمشافي من الوصول لأدوات تشخيص حديثة.
  • قيود التحويلات: أثرت مباشرة على ملايين السوريين الذين يعتمدون على دعم أقاربهم في الخارج.
  • عقوبات منخفضة التأثير الملموس:
  • عقوبات على شخصيات أمنية وسياسية من حيث التجميد الفوري للأصول، أثرت بشكل محدود على ديناميكيات الحكم.
  • عقوبات على الجماعات مثل “فرقة السلطان سليمان شاه” المدعومة تركياً: كانت رمزية أكثر مما هي بنيوية.

إن استخدام مفهوم الأثر غير المتجانس للسياسة الواحدة يتضح في هذه العقوبات، فعقوبات التكنولوجيا والتعليم أثّرت على أطفال، بينما المستهدَف هو النظام، وهذه فجوة سياسية تظهر بوضوح في البيانات.

العزلة أم الشلل؟ تفكيك نتائج الاستهداف

واحدة من الطرق الأساسية في التحليل هي مقارنة المخرجات المعلنة بالأثر الحقيقي، فعلى الورق، العقوبات تستهدف النظام، لكن بالنظر إلى تأثيراتها نرى:

  • انكماش الاقتصاد السوري بنسبة تجاوزت 60% منذ 2011.
  • ارتفاع معدلات الفقر فوق 90%، وفق تقارير الأمم المتحدة.
  • هروب الكفاءات والعمالة المدربة.

هذه ليست آثارا على النظام، بل على المجتمع، وهنا نجد المفارقة: عندما يُصمم النظام ليعيش على اقتصاد الظل والتهريب، من سيتأثر فعلًا من تقييد القنوات الرسمية؟

القطاع المالي كدراسة حالة: مركز العاصفة

حين جُمدت أصول البنك المركزي السوري في ديسمبر 2020، بدا القرار في واشنطن وكأنه ضربة قاصمة للنظام. لكن في الواقع:

  • تم اللجوء إلى السوق السوداء.
  • زادت الفروقات بين سعر الصرف الرسمي والموازي.
  • انتشرت شركات الحوالات غير المرخصة.

ما حصل لم يكن “تجفيفا” بل تفكيكا للنظام المالي الرسمي واستبداله بأنظمة موازية غير خاضعة للرقابة، وهذه نتيجة غير مقصودة، لكنها متوقعة، حين تغلق القنوات الرسمية، تولد قنوات غير رسمية، غالبًا أكثر ضررا.

العقوبات والسياسة: أي دولة تُعاقب؟

هناك مقارنات الخلفية (baseline comparisons) فلو أخذنا العقوبات على إيران أو فنزويلا كخلفية، نلاحظ تشابهات:

  • في كل الحالات، الطبقة الحاكمة تتأقلم.
  • الضغط يقع على الفئات الأفقر.
  • تخلق العقوبات بيئة خصبة لاقتصاد الحرب.

لكن في الحالة السورية، هناك بُعد إضافي “الحرب” فالعقوبات فُرضت على اقتصاد منهار أصلا، أي أنها لم تخلق الأزمة، لكنها أحكمت قفلها.

حين تُغلق السياسة الاقتصاد، يفتح الناس النوافذ بوسائلهم

يمكن العودة للسؤال الأصلي: هل العقوبات حققت هدفها؟ من حيث الضغط على النظام، البيانات تقول: جزئيا أما الأثر على المجتمع فكان واسعا ومؤلما، فالعقوبات ليست مجرد أدوات قانونية، فهي تدخلات مع آثار غير خطية، تتضخم مع الزمن، وتنتج “ضررا ثانويا” لكن ليس عايرا أبدا لمن يعيشه.

هناك تفكير مختلف فبدلا من التوسع العددي في العقوبات، ماذا لو أُعيدت هندستها لتحصر الأثر؟، أي استهداف شبكات المال غير الرسمي، أو بناء آليات لتصفية الأثر الإنساني.

الأرقام تسرد حكاية واضحة: سوريا، بين المطرقة والسندان، تدفع ثمنا لا تحصيه الأوامر التنفيذية، ورفعها اليوم ليس أمرا معقدا بل سيغير أيضا من العلاقات داخل المجتمع لأن الرفع يأتي في زمن الدمار الكامل.

1 فكرة عن “العقوبات على سوريا: ماذا تقول لنا البيانات حقا؟”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *