تفكيك شيفرات فورد: كيف ترسم واشنطن خريطة سوريا بين “الانسحاب المسؤول” و”التمكين المشروط”؟

تُشير محاضرة السفير روبرت فورد في “مجلس العلاقات الخارجية في بالتيمور” (1 أيار 2025) إلى تحوّل عميق في مقاربة واشنطن تجاه سوريا ما بعد الأسد، لكنها تكشف أيضا عبر طبقات ترميزٍ عن صراعٍ داخل أروقة القرار الأميركي بين “الانسحاب المسؤول” و”إدارة الفراغ”.

خلف اللغة الدبلوماسية الهادئة، يختبر فورد سقف الخطاب الرسمي عبر إعادة تعريفه لثلاث عقدٍ مركزية: شرعية أحمد الشرع (الجولاني)، مستقبل الوجود العسكري الأميركي، وجدوى الإبقاء على “قانون قيصر”.

أولاً: السياق – لماذا الآن ولماذا بالتيمور؟

اختيار سفير أميركي سابق إلى سوريا أن يظهر بمحاضرة من بالتيمور لا من واشنطن، فهو يبعث بإشارةٍ مقصودة عن أن رسالته تتجاوز البروتوكول الرسمي، حيث جاءت محاضرته في “مجلس الشؤون الخارجية في بالتيمور” تحت عنوان «الثوار السوريون انتصروا… ماذا الآن؟” فالتوقيت تزامن مع سجالٍ ساخن في العاصمة بعد إعلان إدارة ترامب تحرّكا لتمرير إعفاءات واسعة من عقوبات “قيصر”؛ تمهيداً لرفعها تدريجيا، في حين تتسابق قوى إقليمية على ملء فراغ ما بعد الأسد، وبدا فورد كمن يختبر صدى أطروحاته بعيداً عن ضغوط العاصمة، مُلوّحاً بسؤالٍ ضمني حول حدود الدور الأميركي المقبل، ويمكن ملاحظة ما يلي:

  • اختيار فورد لعاصمةٍ «هامشية» وليس مركز صنع القرار في واشنطن يُجنّبه تقييدات البروتوكول ويتيح له دفع خطابٍ تجريبي أمام جمهورٍ مختص، قبل أن يلقى صداه في الإعلام الوطني.
  • توقيت المحاضرة جاء بعد أيامٍ من إعلان إدارة ترامب عزمها إصدار إعفاءات واسعة من قانون قيصر، تمهيداً لرفع العقوبات عن دمشق الجديدة؛ وهو ما يفسّر حثّ فورد على “إعادة النظر في أدوات الضغط”.

قراءة الترميز

حديث فورد المتكرّر عن “نافذة الفرصة الضيّقة” ليس توصيفا زمنيا بقدر ما هو تحذيرٌ مبطّن: إذا تأخّرت واشنطن في تعديل سياساتها، فإن قوى إقليمية ولا سيما تركيا وإيران ستملأ الفراغ السياسي والعسكري، وهذا “التلويح بالفراغ خطابٌ استُخدم مرارا منذ 2013 لحشد دعم الكونغرس لزيادة الانخراط الأميركي في سوريا، ويعيد فورد توظيفه بصورة معكوسة لدفع البيت الأبيض إلى تقليص الانخراط العسكري، لا زيادته.

ثانياً: شرعية أحمد الشرع—من الجهادي إلى رجل الدولة

من بين كلّ اللاعبين الجدد على الساحة السورية، يظلّ صعودُ أحمد الشرع الحدثَ الأكثر إثارةً للجدل، فالرجلُ يحملُ سجلا ثقيلا من الانخراط الجهادي، لكنه اليوم يتقمّصُ دورَ رجل الدولة الساعي إلى اعترافٍ إقليميّ ودوليّ، السؤال المحوري ليس كيف تغيّر الشرع فحسب، بل كيف يُعاد تدوير شرعيته في أعين الداخل والخارج معاً، وفي السطور التالية سنفكّكُ هذا التحوّل ونقيس كلفته وفرصه، والمحاضرة تطرح هذا الموضوع عبر:

  • فورد يبني مرافعةً مقصودة حول تحوّل الشرع بالاستناد إلى زياراته الشخصية لإدلب ولقاءاته مع قادة مسيحيين أكّدوا إعادة ممتلكاتهم، رغم عدم تطابق هذا الكلام مع الواقع.
  • يُشير كذلك إلى انفتاح الشرع على الأقليات الدينية واستقباله وفدا يهوديا سوريا-أميركياً في دمشق، ويعتبرها سابقة لم تحدث منذ نصف قرن.
  • الخطاب يستعير لغة “المراجعات الفكرية” التي برع فيها قادة حركات إسلامية عربية لتحسين تموضعهم السياسي، لكن فورد يتعمّد تجنّب الإشارة إلى استمرار القيود على مشاركة النساء في مؤسسات “حكومة الإنقاذ” في إدلب، ومذابح الساحل، ما يعكس انتقائية مقصودة في عرض “إصلاحات” الشرع.

فك الشيفرة

إبراز سابقة دعوة الشرع لانتخابات خلال ثلاث سنوات،( رغم أن المهلة التي حددها الشرع خمسة سنوات) لا يهدف فقط لتسويق الرجل غربيا، بل لتمهيد الأرضية القانونية لاعترافٍ دولي مشروطٍ بحكومة جديدة، شبيهٍ بـ”اتفاق أربيل” الذي أشرف عليه الأميركيون في العراق عام 1992.

ثالثاً: الوجود العسكري الأميركي—بين «تقليص المخاطر» و«حماية المكتسب»

يلمّح فورد إلى أن إبقاء نحو ألفي جندي أميركي شرق الفرات فقد مبرّراته الأصلية بعد زوال سيطرة داعش المكانية، ويحاجج بأن واشنطن تُغامر بصدامٍ مع حليفٍ أطلسي (تركيا) من أجل قتالٍ بالوكالة عن قوات سوريا الديمقراطية، وهو موقفٌ سبق أن عبّر عنه علناً في أكثر من منبر، في المقابل، تتنامى احتمالات الاحتكاك التركي-الإسرائيلي في أجواء الشمال السوري، ما يرفع كُلفة بقاء القوات الأميركية في منطقة التماس.

قراءة الترميز

ترك فورد الباب مواربا لانسحاب أميركي “مشروط” بنجاح الاتفاق الوليد بين الشرع وقائد “قسد” مظلوم عبدي حول دمج القوات الكردية في جيشٍ سوريٍ موحّد، وهو طرح يسحب الذريعة التركية للتوغل ويحمّل دمشق الجديدة مسؤولية أمن الشرق.

رابعاً: فك عقدة العقوبات “قيصر” تحت المشرط

ما يطلقه السفير الأمريكي السابق يشكل محاولة في رسم مفهوم العقوبات، وإخراجها من دائرة أوراق الضغط لدى الإدارة الأمريكي، ويمكن ملاحظة:

  • إعادة فورد لصياغة النقاش حول العقوبات بوصفها أداةً صُمّمت لـ”تغيير السلوك” لا “عقاب النظام”، ويستشهد بتوجّه الإدارة نحو إعفاءات واسعة.
  • في استشهاده، يقتبس من جلسة استماعٍ حديثة في مجلس الشيوخ تُفَضِّل “تخليق آليات تمويل غير أميركية لإعادة الإعمار” على ضخّ أموال دافعي الضرائب الأميركيين.

قراءة الترميز

هنا يستخدم فورد مفردات “التحديث المشروط” وهو مصطلحٌ شاع في تسعينيات العراق ليدلّ على مقايضةٍ ضمنية: رفع تدريجي للعقوبات مقابل التزام دمشق الجديدة بإعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وحلّ الميليشيات.

خامساً: الإقليم—ساحات اشتباكٍ جديدة

يذكّر فورد مستمعيه بأن انخراط إسرائيل الجوي في سوريا لم ينحسر بسقوط الأسد، وأن شراكة ناشئة بين أنقرة والحكومة الجديدة تضع قوات البلدين في مسار تصادم فوق الأجواء السورية، وفي الخلفية، تضغط دول الخليج على واشنطن لتسريع التطبيع مع دمشق، ما انعكس في مطالبة ترامب للشرع بالانضمام إلى “اتفاقات أبراهام”.

قراءة الترميز

إشارة فورد إلى “سباق التسلّح الدبلوماسي” تعكس صراعا خليجيا – إيرانيا على هوية النظام الجديد، وتُفسّر محاولته طمأنة إسرائيل بأن «دمج قسد» سيُغلق الممر الإيراني البري، ويُقلّص حاجة تل أبيب إلى هجمات وقائية.

سادساً: ما الذي لم يقُله فورد؟

  1. ملف العدالة الانتقالية: تجاهلَ الحديث عن أي آلياتٍ لمحاسبة جرائم المرحلة السابقة وتجاوزات الفصائل المعارضة، ما يثير مخاوف من صفقة سياسية بلا مسار عدلي.
  2. دور روسيا: يتجنّب فورد ذكر موسكو رغم أنها لا تزال تمتلك نفوذاً جوياً في الساحل، لعدم تعقيد رسالته الأساسية للجمهور الأميركي حول إمكانية الانسحاب” بدون خسارة نفوذ.
  3. التحدّي الاقتصادي الداخلي ركز على العقوبات، لكنه لم يتطرّق إلى الانهيار المالي المحتمل إذا فشلت الحكومة في استيعاب نحو 40 فصيلاً مسلحاً وتوحيدها في جيشٍ واحد.

خلاصة استشرافية على طريقة تشارلز ليستر

يضع فورد اليوم حجر زاويةٍ في مسار ربما يُفضي إلى إعادة تعريف علاقة واشنطن بسوريا؛ من استراتيجية “الاحتواء المزدوج” (داعش / الأسد) إلى مقاربة “التمكين المشروط” لحكومةٍ انتقالية ملوّثة بماضٍ جهادي، ونجاح الخطة مرهون بأربعة اختبارات متداخلة:

الاختبارالمؤشرات القصيرةالمخاطرالمكاسب المحتملة
دمج قسدبدء تدريب مشترك في الفرات الأوسطتمرّد فصائلي، رفض تركيإغلاق جيب أمني مُقلق لواشنطن
تطمين الأقليات“إعادة ممتلكات المسيحيين رسميا” ليست مأكدةانشقاق داخل HTSشرعية دولية متزايدة
رفع العقوباتإصدار أول رخصة استيراد نفطيفساد النخب الجديدةانطلاقة إعمار مبكرة
انسحاب أميركيخفض القوات إلى1000  جنديفراغ أمني تستغله إيرانتقليل كلفة الانتشار

إذا فشل واحدٌ من هذه الاختبارات، فإن احتمالات “ليبيا-2” في المشرق تتقدّم بقوة، على الأخص أن فورد تجاهل الأقليات في الساحل وكأنها غير موجودة، أما إن نجحت، فستكون سوريا مختبر الشرق الأوسط الأول لدمج حركات إسلامية مسلّحة في بنية دولةٍ وطنية بدعمٍ غربي—سرديةٌ تخاطر واشنطن برهانها، ومعها مستقبل ترتيبات الأمن الإقليمي لعقدٍ قادم.

ما قدمه فورد وفق رسوم بيانية

منحنى القوات الأميركية يبيّن التردد الإستراتيجي لواشنطن: ذروة بـ 2,000 جندي عام 2017 ثم خفضٌ للنصف نهاية 2019 عقب قرار ترامب “الانسحاب الجزئي”، ثم عودة إلى 2,000 بعد سقوط النظام السياسي في 2024، ثم التراجع مجددا إلى أقل من 1,000 وفق خطة أبريل 2025 وهو الإطار الذي يضغط فيه فورد لتقليص الكلفة والمخاطر.

الرسم البياني التالي هو مصفوفة النفوذ لعام 2025 وتستند إلى سيطرة هيئة تحرير الشام على إدلب نفوذ حكومة الشرع في دمشق بدعم تركي وخليجي، حضور “قسد” شرقا، ودور متراجعٍ لإيران/روسيا بعد انهيار الأسد مع بقاء إسرائيل لاعبَ ردع جويا.

الرسم البياني الأخير هو مصفوفة الفرص/المخاطر ويقدم جدول “الاختبارات الأربعة” في المقال إلى إحداثيات تسهّل رؤية المقايضات: دمج “قسد” مثلا يحمل خطرا مرتفعا (تركيا، تمردٌ داخلي) لكنه يفتح فرصة أمنية كبيرة؛ في حين أن الانسحاب الأميركي يقلّل العبء المالي لكنه يرفع احتمالات الفوضى على حساب المكاسب السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *