سوريا 2025: جغرافيا جديدة بخرائط فصائل قديمة

لم تكن نهاية سلطة البعث (كانون الأول 2024) نهاية للصراع السوري، بل بداية لمرحلة أكثر تعقيدا، فبدلا من الاستقرار، شهدت الساحة السورية إعادة تشكل سريعة ومكثفة لخريطة القوى العسكرية، حيث برزت فصائل جديدة وقديمة تتنافس على المواقع والنفوذ، وعلى رأسها “جيش سوريا الحرة” و”غرفة عمليات الجنوب”.

في مشهد يشبه الفراغ الأمني الذي أعقب سقوط بغداد عام 2003، تتحرك هذه الفصائل وفق حسابات إقليمية وداخلية معقدة، وسط غياب مؤسسات دولة فعالة، وتردد المجتمع الدولي في صياغة مقاربة حاسمة.

أولاً: جيش سوريا الحرة – تقدم مدروس نحو قلب سوريا

يحظى ” جيش سوريا الحرة” بدعم مباشر من التحالف الدولي، ويشكل الآن رأس الحربة في إعادة رسم الجغرافيا العسكرية شرق وجنوب العاصمة، وانطلاقه من قاعدة التنف باتجاه مدن البادية (تدمر، السخنة) ليس مجرد توسع عسكري، بل خطة متكاملة للربط اللوجستي بين الشرق والغرب، وبين الحدود العراقية ومحيط دمشق.

عمليا فمنذ أعلن هذا الفصيل السيطرة على الضمير ومطارها العسكري اتضح أنه لا يقوم فقط بتحرك تكتيكي فحسب، بل خطوة استراتيجية بامتياز، فالضمير تقع على مفترق طرق بين البادية والعاصمة، وهي نقطة ارتكاز يمكن من خلالها خنق أي تحركات معادية قادمة من الشمال الشرقي أو الجنوب الشرقي.

أما مطار السين العسكري، فحمايته وتأمينه يشير إلى تحول نوعي في تفكير هذا الفصيل، فمن مجرد فصيل متمرد إلى بنية شبه نظامية تسعى للسيطرة على مفاصل الدولة السابقة، والتواجد في هذا المطار يعني امتلاك بوابة جوية محتملة لأي دعم لوجستي لاحق، أو حتى قاعدة لضربات جوية مستقبلية إن لزم الأمر.

ثانيًا: غرفة عمليات الجنوب – مقاومة الانضواء تحت الدولة الجديدة

في الجنوب، الصورة مغايرة، فـ”غرفة عمليات الجنوب” بقيادة أحمد العودة، وعلى الرغم من دخولها المؤقت إلى دمشق عقب سقوط النظام، اختارت الانسحاب والعودة إلى قواعدها في درعا والسويداء والقنيطرة.

هذا الانسحاب ليس عشوائيا بل يعكس توجسا سياسيا وعسكريا من الاندماج الكامل في وزارة الدفاع السورية الجديدة، فالغرفة تطالب بضمانات واضحة قبل تسليم سلاحها أو تفكيك بنيتها، والدرس الماثل أمامها من تجارب إدماج الفصائل السابقة بأن معظمها أنتهى أو هُمش.

ما نراه هنا هو ثنائية الولاء والبقاء، فالغرفة لا تريد الاصطدام مع الواقع الجديد، لكنها أيضا لا تثق به، وهذا ما يجعلها لاعبا معرقلا لأي مشروع دمج عسكري شامل.

ثالثًا: خريطة قوى جديدة أم جمر تحت الرماد؟

التوسع السريع لـ”جيش سوريا الحرة” جنوبا واقترابه من العاصمة، يقابله تمركز حذر لـ”غرفة عمليات الجنوب” في المحافظات الجنوبية، هذا التوزع يُنتج توازن قوى هش ومفتوح على الانفجار.

  • في محيط دمشق، التوسع الجديد يعطي “جيش سوريا الحرة” قدرة غير مسبوقة على التأثير المباشر في التوازن السياسي والعسكري للعاصمة، ولا يمكن لأي سلطة جديدة في دمشق تجاهل وجوده أو فرض إرادة معاكسة عليه دون تكلفة باهظة.
  • على مستوى التنافس الإقليمي، هذا التمدد يضع الفصائل المدعومة من تركيا في موقف دفاعي، خاصة في شمال البلاد، فالتحالفات الحالية في إدلب وريف حلب ستتأثر بحسابات جديدة، وربما تنشأ موجة تصفيات داخلية بين الفصائل المتنافسة على الشرعية والسلاح والدعم.
  • على صعيد مشروع التوحيد العسكري، الخلاف بين الفصيلين يقوّض فرص بناء جيش وطني موحد تحت راية وزارة الدفاع السورية الجديدة، واستمرار التردد من غرفة عمليات الجنوب، في مقابل توسع “جيش سوريا الحرة”، يعني أننا أمام خطر واضح لتكرار نماذج “الدولة داخل الدولة”، حيث يحتفظ كل فصيل بسلاحه ونفوذه، ويؤجل أي اندماج حقيقي لأجل غير مسمى.

رابعا: السيناريوهات الممكنة – بين الدمج والصدام

المشهد السوري في 2025 يراوح بين ثلاثة سيناريوهات:

  1. اندماج تدريجي مشروطيتم عبر تفاهمات سياسية وضمانات دولية تؤمن للفصائل المسلحة اندماجا ضمن هياكل الدولة الجديدة مقابل الحفاظ على بعض الامتيازات.
  2. صدام عسكري محدود بين “جيش سوريا الحرة” والفصائل الجنوبية أو حتى مع فصائل الشمال، في حال تصاعد التنافس على النفوذ أو بسبب تعارض الرؤى بشأن مستقبل الحكم في سوريا.
  3. تقسيم الأمر الواقع حيثتتحول سوريا إلى مجموعة من المناطق شبه المستقلة أمنيا، مع سلطات محلية وفصائل تحكم فعليا بمعزل عن الحكومة المركزية، شبيهة بتجربة العراق ما بعد 2003 أو ليبيا ما بعد القذافي.

سقوط النظام السوري فتح الباب لتشكيل سوريا جديدة، لكن من دون تصور مشترك بين الفاعلين المحليين والدوليين، ولا يزال الصراع قائما وإن تغيرت وجوهه، فتوسع “جيش سوريا الحرة” وتحفظ “غرفة عمليات الجنوب” يعكسان حقيقة أساسية: لا فصيل يريد أن يخسر ما قاتل من أجله، ولا أحد مستعد للتنازل ما لم يحصل على ضمانات حقيقية.

الأسئلة المطروحة الآن ليست فقط من سيحكم دمشق، بل كيف ستُحكم؟ ومن سيكون في موقع القرار؟ ومع من سيتحالف الخارج؟ الإجابات لا تزال معلقة… لكنها ستُرسم حتما على خطوط الجغرافيا والنار.

فكرتين عن“سوريا 2025: جغرافيا جديدة بخرائط فصائل قديمة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *