منذ أن لاحت أول إشارة رسميّة إلى إمكانية كسر جليدٍ عمره عقود بين دمشق وتلّ أبيب، تحوّل ملفّ التطبيع السوري-الإسرائيلي إلى كرة ثلجٍ تتدحرج على منحدر الأحداث الإقليميّة.
توالت التصريحات من واشنطن والقدس ودمشق في سباقٍ مع الزمن؛ فكل طرفٍ يمتلك سرديّة “السلام” قبل الآخر، فالإدارة الأميركيّة تعرض رفع العقوبات، وإسرائيل تشهر عصا الأمن في الجولان، فيما تحاول القيادة الانتقاليّة في سورية استثمار اللحظة للنجاة باقتصادٍ مُنهَك.
مدخل نظري
في تحليل خطاب التطبيع علينا تجاوز المستوى الوصفي للألفاظ، وتفكيك علاقات القوّة التي تشرعِنها النصوص؛ فاللغة ليست مرآة بريئة، بل أداة لإعادة إنتاج الهيمنة عبر ثلاث طبقات متشابكة: بنية الخطاب (macro-structure)، استراتيجيات الخطاب (micro-structure)، والسياق الاجتماعي-السياسي، ووفق هذا التصور يمكن تحليل ثمانيَ تصريحات صدرت بين كانون الأوّل 2024 وأيار 2025 حول “تطبيع” محتمل بين سورية و”إسرائيل”.
البنية الكلّية (Macro-Structure)
جميع التصريحات التي صدرت بشأن “التطبيع”، باستثناء تصريح واحد نَفَت فيه الإمارات دور الوساطة، تدور حول عقد مقايضةٍ صريح يتضمن رفع تدريجي للعقوبات ودمجٌ اقتصادي لدمشق في مقابل ضماناتٍ أمنيةٍ لـ”إسرائيل”، وهذا الموضوع الأعلى (super-topic) يُوحّد النصوص ويميزها عن خطابَين سابقين هما خطاب “المقاومة” الرسمي في دمشق قبل 2025، وخطاب “الحرب الوقائية” الإسرائيلي خلال الربيع العربي، وتغيّر الموضوع الأعلى يكشف تحوّلا في موازين القوى بعد سقوط نظام الأسد حيث أصبحت سورية طرفاً تفاوضيا لا “تهديداً وجوديا”.
المعجم والدلالة (Micro-Structure)
- المحور الأمريكي يوظف أفعالا إنجازية (performatives) مشروطة، “سنُعفي و “نستكشف” و “خريطة طريق”، ما يعني أن واشنطن تعرف نفسها فاعلا مانحا للامتيازات، في حين تُحيل دمشق وإسرائيل إلى مفعولين يتلقيان الشروط.
- المحور السوري يستخدم أفعالا مبنية للمجهول أو صيَغا اسمية (“لن نسمح”، “هناك مفاوضات غير مباشرة”) لتخفيف المسؤولية المباشرة، ويبقي خط الرجعة مفتوحا أمام الجمهور الداخلي المناهض لـ”إسرائيل”.
- المحور الإسرائيلي يتمسك بأفعال قَصْرية (“نطالب”، “نزع السلاح”) ترفع من سلطة المتكلّم وتُهمِّش الفاعل السوري، ما يؤكد استمرارية نموذج الهيمنة الأمنية.
الجدول يُظهر تكرار مفردات “سلام”، و “انسحاب” و “عقوبات” و”تهدئة”؛ وتفوق مفردة “الأمن” على كل المفردات في التصريحات الإسرائيلية بنسبة 300%، ما يدعم فرضيّة مركزية المصالح الجماعية للنخبة الحاكمة في بناء المعجم السياسي.
التاريخ | المتحدِّث | جوهر التصريح | السياق المباشر | المصدر |
27 ديسمبر 2024 | ماهر مروان، محافظ دمشق المعيَّن حديثًا | “مشكلتنا ليست مع إسرائيل… لا نريد ما يهدِّد أمنها أو أمن أيّ دولة” | مقابلة مع NPR عقب سقوط نظام الأسد | NPR |
23 فبراير 2025 | بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء إسرائيل | دعا إلى «نزع سلاح جنوب سورية بالكامل» وعدم السماح لقوات النظام الجديد أو HTS بدخول المحافظات الحدوديّة | خطاب تخريج ضبّاط في حفل عسكري | Reuters |
26 أبريل 2025 | أسعد الشيباني، وزير الخارجيّة السوري | رسالة خطّية لواشنطن تتعهّد بأنّ سورية «لن تكون تهديدا لإسرائيل» وتعرض تفكيك الفصائل الفلسطينيّة داخل سورية | ردّ رسمي على شروط تخفيف العقوبات الأميركيّة | The Times of Israel |
7 مايو 2025 | أحمد الشرع، الرئيس الانتقالي السوري | أكّد وجود “محادثات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء لتهدئة التوتّر” | مؤتمر صحافي مع ماكرون في باريس | Reuters |
7 مايو 2025 | لانا نصيبـه، مساعدة وزير خارجيّة الإمارات | نفت “قطعا تقارير الوساطة: “الإمارات ليست جزءا من أي محادثات سرّية” | بيان ردّ على تقرير رويترز | The Jerusalem Post |
14 مايو 2025 | دونالد ترامب، رئيس الولايات المتّحدة | حثّ الشرع على «إقامة علاقات مع إسرائيل» مقابل رفع كامل للعقوبات عن دمشق | لقاء ثنائي في الرياض خلال جولته الإقليميّة | Reuters |
15 مايو 2025 | ماركو روبيو، وزير الخارجيّة الأميركي | رحَّب «بدعوات الحكومة السوريّة للسلام مع إسرائيل» وأعلن خريطة طريق لخفض النفوذ الإيراني | بيان وزارة الخارجيّة بعد اجتماع أنطاليا | U.S. Department of State |
16 مايو 2025 | مسؤول أمني إسرائيلي رفيع (تسريب) | كشف إطارا مبدئيّا لاتفاق سلام: اعتراف متبادل، مراقبة دوليّة للجنوب، انضمام محتمل لاتفاقات أبراهام | تقرير «جيروزالِم بوست» | The Jerusalem Post |

استراتيجيات الخطاب
لا تكمن أهمية التصريحات الرسمية حول التطبيع في محتواها المعلن فحسب، بل في البنية التي تؤطرها والدلالات التي توظفها، فتحليل الاستراتيجيات الخطابية يسمح بكشف آليات التلاعب بالصور الذهنية وإعادة تشكيل موازين القوى، فالمتحدثون لا يصفون الواقع، بل يعيدون إنتاجه من خلال انتقاء الكلمات، وتحديد ما يُقال وما يتم تغييبه، ومن هنا، يُصبح فهم الخطاب أداة لفهم السياسات ذاتها.
- استراتيجية الإيجابية الذاتية/السلبية للآخر (positive self-presentation & negative other-presentation)
- تبني واشنطن صورة “الوسيط العادل” الذي يرفع العقوبات “متى امتثل” الطرف المضاد، في حين تُبرز خطابيا “تهديد” النفوذ الإيراني لتبرير العقاب السابق.
- نتنياهو يُصوِّر الجنوب السوري منطقة رمادية تعج بـ”الميليشيات”، ما يسمح له بتأطير أي تردد في التطبيع كمسألة أمن قومي.
- التضمين والإقصاء (Inclusion/Exclusion)
- تُسقِط كل التصريحات أي ذكر صريح لفصائل المعارضة السورية أو اللاجئين؛ فالحقل الدلالي يقتصر على “الدول” و”القادة”، مُقصيا الفواعل غير الحكومية التي قد تعطل السردية الرسمية للتطبيع.
- يُقصَى دور روسيا وإيران مباشرة، ويُشار إليهما بالتلميح (عدم السماح للنفوذ الإيراني مجددا) للحفاظ على مسار تفاوضي قائم على الثنائية «دمشق–تل أبيب» تحت سقف الرعاية الأميركية.
- إستراتيجية التناصّ (Intertextuality)
- تقتبس الإدارة الأميركية قاموس “اتفاقات أبراهام”، مستعملة النجاحات السابقة مع الخليج لتطبيع مفهوم “سلامٍ إقليمي شامل”؛ وهنا يُعاد تدوير سردية “سلام اقتصادي” طُبِّقت في الأردن والضفة الغربية.
- بالمقابل يستدعي خطاب الشرع رمزية “مفاوضات مدريد 1991” عندما يتحدث عن “مسارٍ غير مباشر”، محاولا إحياء شرعية تفاوضية سورية تقادمت.
السياق الاجتماعي-السياسي
الخطاب لا يُفهم بدون ربطه بسياق الإنتاج والاستهلاك، إنتاجياً، حيث صيغت هذه التصريحات في لحظة انتقالية: سقوط الأسد، تعثّر خطة إعادة الإعمار بسبب العقوبات، وتصاعد المخاوف الإسرائيلية من تمدّد الحرس الثوري عبر الجولان، أما استهلاكيا، تأتي الرسائل لتخاطب ثلاث جماهير متزامنة: الرأي العام الأميركي الذي يسعى البيت الأبيض لتهدئته بإنجازٍ دبلوماسي، الرأي العام السوري الباحث عن مَخارج اقتصادية، والرأي العام الإسرائيلي المنقسم بين ميلٍ براغماتي للأمن وميل أيديولوجي لرفض التطبيع الرمزي دون تنازلات ميدانية.
الأيديولوجيا وبناء الهيمنة
الخطاب السياسي يصوغ معرفتنا الجمعية عبر ما يسميه “نموذج العقل الاجتماعي” حيث تقوم التصريحات الحالية بإيجاد أيديولوجيا سلام مشروط وتؤكد أن:
- سورية الفقيرة المعزولة تحتاج اندماجاً اقتصاديا.
- “إسرائيل” تحتاج ضماناتٍ أمنية؛
- الولايات المتحدة “شرطي الإقليم” القادر على ضبط الطرفين.
هكذا يتكرّس مركزٌ (واشنطن-تل أبيب) وهامشٌ (دمشق) داخل شبكة المصالح، ويُعاد إنتاج علاقة تبعية تبرّر استمرار أدوات العقاب (قانون قيصر) كرافعة ضغط حتى بعد سقوط الأسد.
إبستمولوجيا الخطاب ومستقبل المسار
إن “الإبستمولوجيا الخطابية” هي صراع على تعريف الواقع، وتشير البيانات إلى مفارقة لافتة فكمّ التصريحات لا ينعكس في تنوع المواقف؛ فالأصوات الفاعلة تظل محصورة في نخبٍ سياسية-عسكرية، فيما يغيب المجتمع المدني السوري تماما، لذلك يبقى التطبيع مشروعاً من أعلى يفتقر لشرعية القاعدة وينذر بإنتاج “سلامٍ هش” ينهار أمام أي اختراق أمني أو تغيّر داخلي.
يُظهر تفكيك لغة التطبيع السوري – “الإسرائيلي” أن الخطاب يعمل بوصفه مسرحا لإعادة توزيع السلطة لا أداة لنقل المعلومات فحسب، فالتماثُل الهيكلي بين مختلف التصريحات (شرط الدفعة/المقايضة، نزع السلاح، رفع العقوبات) يكشف عن هيمنة معرفية (cognitive dominance) مارستها الولايات المتحدة و”إسرائيل”، فيما تعاطت سورية ببراغماتية اضطرارية.
الخطاب ليس مجرد كلمات، بل أفعال رمزية” تؤسّس للواقع وتُعيد إنتاجه، وأي مقاربة لملف التطبيع لا بد أن تتعامل مع الخطاب بوصفه ساحة الصراع الأساسية؛ فمن يمتلك اللغة يمتلك مستقبل الحدود.