العدالة الانتقالية في سوريا بعد 8 كانون الأول 2024 .. قراءة نقديّة

مع انهيار النظام السوري في 8 كانون الأول 2024 وظهور حكومة انتقالية بقيادة الرئيس أحمد الشرع، شهدت سوريا جملة من القوانين تخص “العدالة الانتقالية”، حيث أقر الإعلان الدستوريّ المؤقت (13 آذار 2025) إنشاء هيئة عدالة انتقالية، وأعلن في 17-18 أيار 2025 لجنتان وطنيتان للتحقيق في الانتهاكات والمفقودين¹².

لكن التقارير الأممية والحقوقية تُظهر استمرار الاعتقالات التعسّفية، والإفلات من العقاب، واستحداث آليات قضائية موازية تقوض حقّ الضحايا في الحقيقة والإنصاف، فالقراءة تؤشر إلى أداء السلطة الانتقالية ما زال انتقائيا ومُسيسا، وأنّ الركائز الأربع للعدالة الانتقالية (الحقيقة، والعدالة الجنائية، والجبر، وضمانات عدم التكرار) لم تُفعَّل لتيكفل بناء سلامٍ مستدام.

  1. الخلفية المنهجية والنظرية

منهج ديان أورنتليشر

طوّرت أورنتليشر الإطار المُحدَّث لمبادئ الأمم المتحدة لمكافحة الإفلات من العقاب (Joinet-Orentlicher Principles)، وحددت أربعة حقوق واجبة للدول الخارجة من نزاع: معرفة الحقيقة، العدالة الجنائية، الجبر، وضمانات عدم التكرار.

يميز هذا النهج بين واجب الدولة بالإفصاح المؤسَّسي عن الانتهاكات، وواجبها الجنائي تجاه مرتكبي الجرائم الجسيمة، وواجبها الأخلاقي والمادي لجبر الأضرار، مع إصلاح القطاع الأمني والقضائي لضمان عدم تكرار الجرائم.

بمقاربة سريعة مع اثنتين من اخصائي العدالة الانتقالية هما: “روتي تييتل”، المختصة في القانون الدولي وحقوق الإنسان والعدالة الانتقالية والقانون الدستوري المقارن، و برسيلا هاينر الخبيرة الأمريكية في مجال العدالة الانتقالية، فإن “روتي تييتل” ترى العدالة الانتقالية لحظة استثنائية تُبرر حلولا براغماتية (كالعفو المشروط) لتمكين التحوّل الديمقراطي؛ و “برسيلا هاينر” تركّز على “الحقيقة كعلاج”، وتبني نموذجا قائما على سرديات الضحايا والمصالحة المجتمعية؛ أما أورنتليشر فتُصرّ على عدم قابلية الحقوق الأساسية للتفاوض، وتُشدد على محورية العدالة الجنائية في إزالة جذور الإفلات من العقاب.

إطار زمني للتصرفات الحكومية (8 ديسمبر 2024 – 19 مايو 2025)

التاريخالإجراءالوصف المختصرالركن المتأثّر
08-12-2024سقوط النظام السياسي وإعلان تعليق الدستورإعلان طارئ ألغى أجزاء من دستور 2012 وأحال السلطات إلى مجلس رئاسي مؤقّتالحقيقة/عدم التكرار
29-12-2024تشكيل لجنة دستورية استشارية1200  شخصية لصياغة “إعلان دستوري انتقالي”الحقيقة
13-03-2025إصدار الإعلان الدستوري الانتقاليتضمّن مادة (49) لإنشاء “هيئة العدالة الانتقالية” واعتبار جرائم الحرب غير قابلة للتقادمالعدالة/عدم التكرار
18-02-2025لجان بديلة لفضّ نزاعات الملكيةمجالس محلية تُعالج نزاعات العقار خارج المنظومة القضائيةالجبر
03-02-2025استمرار مصادرات واعتقالات في ريف دمشقمداهمات تستهدف ضباطاً سابقين وعائلاتهمالعدالة/الحقيقة
01-02-2025الشبكة السورية لحقوق الإنسان توثّق 229 اعتقالا تعسفيامؤشر لاستمرار انتهاكات منهجيةالحقيقة
17-05-2025مرسوم إنشاء “هيئة المفقودين” و”هيئة العدالة الانتقالية الوطنية”هيئات ذات “استقلال مالي” لكن بتعيين رئاسي مباشرالحقيقة/الجبر
13-05-2025الشبكة السورية لحقوقالإنسان توصي بقانون عدالة انتقالية مستقلدعوة لمنح الضحايا دوراً في تصميم الآلياتكل الأركان

  • تحليل نقدي وفق الأركان الأربع

على الرغم من تشكيل هيئة المفقودين، فإن تقارير الشبكة السورية لحقوق الإنسان إلى أن 229 حالة اعتقال تعسّفي سُجّلت في كانون الثاني 2025، وهذا الرقم هو أقل تقدير للاعتقال، معظمها بلا إفصاح عن أماكن الاحتجاز، وتقرير لجنة التحقيق الدولية (آذار 2025) يوضح أنها زارت سجونا مثل صيدنايا و”الفرع 235 (فلسطين)” بعد التغيير السياسي، ووجدت أن “شبكة الاعتقال والتعذيب” قائمة وبيد وحدات لم تُخضع لعملية تدقيق وظيفي، وحتى بيان الرئاسة الانتقالية عند إعلان هيئات العدالة (17-18 أيار 2025) أقرّ بأن بعض الملفات “تتطلّب تعاون الأجهزة الأمنية القائمة” لكشف مصير المفقودين، ما يعني أن تلك الأجهزة ما تزال تعمل قانونياً أو واقعياً.

الحقّ في العدالة (المساءلة الجنائية)

ألزمت المادّة 49 من الإعلان الدستوري الدولة “بملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة”، لكن لم تنشأ بعدُ محكمة مختصّة أو غرف مختلطة، وتُظهر إفادات مكتب المفوض السامي للأمم المتحدة لحقوق الإنسان OHCHR (كانون الثاني 2025) أنّ آلاف المعتقلين السابقين لم يخضع أحدٌ من جلاديهم لأي محاكمة فعلية، في المقابل، استُحدِثَت محاكم خاصة لـ”الإرهاب” تُحاكِم عناصر النظام السابق بسرعة، وسط شكاوى من غياب معايير المحاكمة العادلة.

الحقّ في الجبر (التعويض وجبر الضرر)

ظلّت قوانين المصادرة القديمة نافذة، بل استعاضت السلطات عنها بلجان محلّية تُسوّي نزاعات الملكية خارج القضاء الرسمي، ما يسمح باستمرار عمليات الاستحواذ غير القانونية على عقارات المُهجَّرين أو حتى العسكريين والموظفين المدنيين من النظام السابق، ولم يُنشأ صندوق تعويضات وطني، واقتصر الدعم على منح مالية لأسر الشهداء في مناطق سيطرة الحكومة الجديدة، وفق تصنيفها، لأنها اعتبرت كل من كان ضمن نفس المسمى  في النظام السابق قتلى ولا تستحق عائلاتهم أي تعويض ما يُخلّ بمبدأ عدم التمييز.

الضمانات بعدم التكرار

رغم دمج بعض فصائل المعارضة في الهياكل الأمنية، لا تزال القيادة العليا للأجهزة الأمنية تفتقر إلى عملية تدقيق، فيما تستمر الاعتقالات العشوائية في شمال-شرق البلاد، وفق OHCHR (نيسان 2025) وفي الساحل ومحافظة حمص، وهذه المناطق كانت أيضا ساحة لتصفيات ميدانية ومجازر متكررة، وفي المقابل أبقى الإعلان الدستوري على صلاحيات رئاسية واسعة لإصدار مراسيم بقوة القانون، ما يُهدّد استقلال السلطة التشريعية.

  • تقييم الالتزام والتحديات البنيوية

ترتبط إخفاقات الأركان الأربع بهيمنة الجهاز الأمني والإطار التشريعي غير المُعاد هيكلته؛ فالسلطة القضائية ما زالت موزّعة بين محاكم استثنائية وقضاء مدني ضعيف الرقابة، إضافة لاستبدال القضاة السابقين بقضاة لهم ولاءات للسلطة الحالية، ويشكو ضحايا النظام السابق والحالي من غياب تمثيلهم في تصميم سياسات العدالة الانتقالية، كما أنّ غياب الشفافية المالية للّجان الجديدة يقوّض ثقة المجتمع الدولي الذي رهن مساعداته بوجود خارطة طريق واضحة.

  • انعكاسات الانتهاكات على الضحايا والاقتصاد

يمثّل تغييب الحقيقة واستمرار المصادرات عائقا أمام عودة نحو 6.8 ملايين لاجئ؛ فعدم توثيق الملكيات والانتهاكات يدفع كثيرين إلى البقاء في الشتات، ما يحرم الاقتصاد من رأس مال بشري واستثمارات حيوية، وقدّرت تقارير ميدانية أنّ إعادة إعمار المساكن المصادَرة أو المدمَّرة تحتاج إلى أكثر من 15 مليار دولار خلال خمس سنوات، وهي كلفة لا يمكن تغطيتها دون حزمة تمويل دولية مشروطة بالإصلاح القانوني.

الهيئات واللجان المنشأة وتقييم استقلاليتها

الهيئةتاريخ الإنشاءآلية التعيينصلاحياتملاحظات استقلالية
هيئة العدالة الانتقالية (دستورية)13-03-2025يعيّن الرئيس 7 أعضاءتوصية بالملاحقات؛ أرشفة الانتهاكاتافتقار لسلطة ادعاء مستقل
هيئة المفقودين17-05-2025يعيّن الرئيس والمدّعي العام 9 أعضاءكشف مصير المفقودين، قاعدة بياناتلا سلطة للإلزام بالكشف عن مواقع الدفن
لجان فضّ نزاعات الملكية18-02-2025محافظو المناطقتحكيم عقاريتخطّي القضاء العادي؛ خطر تسييس

هناك حاجة ملحة لفتح مسارٍ موثوق للعدالة الانتقالية، بإصدار قانون شامل يُقر صراحة بجميع الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها مختلف الأطراف منذ عام 2011، ويُلزم الدولة بإشراك الضحايا وأسر المفقودين في صياغة آليات كشف الحقيقة وجبر الضرر، بحيث يكون لهم تمثيلٌ واضح في اللجان المختصة ومجالس الرقابة الشعبية.

ومن الضروري إنشاء نيابة عامة متخصصة بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية تتمتع باستقلال مالي وإداري كامل، وتُعيَّن قياداتُها من خلال عملية شفافة يشارك فيها القضاة المستقلون والمجتمع المدني، الأمر الذي يمنع أي تدخلٍ من السلطة التنفيذية أو الأجهزة الأمنية القديمة.

ولتحقيق عدالة انتقالية تؤمن استدامة الاستقرار فيجب تجميد جميع قرارات المصادرة والإخلاء والإستملاك التي صدرت سواء في مرحلة ما قبل سقوط النظام أوبعده، وذلك بانتظار انجاز سجل وطني موحد للملكية العقارية تحت إشراف دولي محايد، يتيح للجميع تقديم طلبات استعادة ممتلكاتهم أو الحصول على تعويضات عادلة، ترسّخ مبدأ الجبر بوصفه ركناً أساسياً للعدالة الانتقالية.

مؤشرات قياس مقترحة

الركنالمؤشرهدف 12 شهر
الحقيقة% الملفات المؤرشفة والمُتاحَة للعامة≥ 60 %
العدالةعدد المحاكمات العلنيّة لجرائم حرب≥ 50 قضية
الجبرحجم التعويضات المصروفة (مليون $)≥ 250
عدم التكراراعتماد قانون إصلاح أمني شاملإقرار بحلول Q1-2026

العدالة الانتقالية بيانيا

1 فكرة عن “العدالة الانتقالية في سوريا بعد 8 كانون الأول 2024 .. قراءة نقديّة”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *