يشهد الاقتصاد السوري تقلبات خطرة منذ ظهور النظام السياسي الجديد وتعيين حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع، وخلال خمسة أشهرٍ فقط انفتحَ البابُ على مزيجٍ نادر من الآمال (رفعٌ تدريجيّ للعقوبات، انفتاحٌ تجاريّ، إعادة هيكلة حكومية) ومخاطرَ موروثة من عقدٍ ونصف من الحرب والعزلة والانهيار المؤسساتي.
إن قراءة الأداء الاقتصادي للحكومة الجديدة مع التركيز على قدرة دمشق على كسر المآزق وتحويل التعافي القصير إلى نمو مُستدام؛ تحتاج لتتبنى لغة نقدية مستندة إلى أحدث بيانات البنك الدولي، إلى جانب رصد السياسات المعلَنة وتقدّمها الفعلي.
فخاخ كوليير وأدواته المؤسّسية
يُبرز بول كوليير، الاقتصادي البريطاني في كتابه The Bottom Billion أربعة “الفخاخ” تبقي الدول الهشّة في دوّامة التخلف:
- فخ النزاع (Conflict Trap) – الصراع الأهلي يدمّر رأس المال البشري ويردع الاستثمار.
- فخ الموارد (Natural-Resource Trap) – الاعتماد على ريعٍ خام يشوّه الحوافز المؤسسية ويولّد “المرض الهولندي”، الذي يعني الأثر السلبي غير المقصود الذي يَحدث عندما تتدفق إيرادات كبيرة من مورد واحد.
- فخ سوء الحوكمة (Bad-Governance Trap) – فساد ومحسوبيّات تَحول دون تخصيص الموارد بكفاءة.
- فخ الأرض المقفلة (Landlocked with Bad Neighbours Trap) – غياب المنافذ البحرية والاعتماد على جوارٍ مأزوم يُقيِّد التجارة والنمو.
يعالج كوليير هذه الفخاخ عبر حزمة أدوات مؤسّسية: إدارة شفافة للموارد، عقد اجتماعي يُخضِع الحكومة للمساءلة، دمج تجاريّ-لوجستي إقليمي، وتدخّلات أمنية محدودة لردع الانتكاس إلى العنف، ويبقى السؤال: أي الفخاخ يطوِّق سوريا اليوم، وما مدى نجاعة السياسات المُستجَدّة في فك قيودها؟
عرض كميّ مُوجز
المؤشّر | 2023 | 2024* | أحدث تقدير (مايو 2025) | ملاحظات |
الناتج المحلي الإجمالي (مليار $) | 22.0 | 21.4 | 21.0 (متوقَّع) | انكماش 1.5 % في 2024 |
نصيب الفرد من GDP ( $) | — | 1,051 (2022) | ≈ 830 | تقلص بفعل التضخم والليرة |
معدل الفقر الوطني | 67 % | 69 % | >70 % | انعكاس خفض الدعم |
الفقر المدقع | 25 % | 27 % | ≈ 30 % | |
احتياطيات النقد الأجنبي (مليون $) | 250 | 200 | 180 | استنزاف للاستيراد الطارئ |
احتياطيات الذهب (طن) | 26 | 26 | 26 | رصيد ثابت |
السكان (مليون) | 25.1 | 23.9 | 25.3 | عودة جزئية للنازحين |
سعر الخبز المدعوم (ليرة/12 رغيف) | 400 | 4 000 | 4 000 | رفع الدعم جزئيا |
*عام 2024 يَشمل الفترة بعد 8 كانون الأول.
النزاع والعقوبات: هل تَراجع فخّ الصراع؟
تُظهر بيانات الأقمار الصناعية للإنارة الليلية استمرارَ تقلّص النشاط الاقتصادي 1.2% في 2023 و 1.5% متوقَّع في 2024، ورغم إعلان واشنطن رفع “معظم” العقوبات بعد زيارة ترامب للمنطقة، فإن التنفيذ الجزئي أبقى قنوات التحويلات والتمويل الخارجي محدودة.
عمليا، لم يتدفق أي رأسمال أجنبي كبير بعد، ما يُضعف أثر رفع العقوبات في المدى القصير، ويبقى فخّ الصراع ماثلا عبر جيوب مسلّحة في الشرق والشمال، فيما تعاني الحكومة الجديدة من عجز مؤسّسي عن بسط الأمن الضريبي والإداري خارج دمشق وحمص.
الحوكمة: اختبار الاستقلالية المؤسّسية
عين المصرفُ المركزي حاكمه الأول وأصدر منتصف آذار 2025 نشرة موحّدة حـدد فيها السعرَ الرسمي عند 12 000 ليرة/دولار، في حين تراجع سعرُ الدولار في السوق غير النظاميّة إلى نطاق 10000 – 95000)وسُجِّل قرابة 7200 ليرة مطلع شباط، وبذلك غدا السعر الرسمي أعلى من سعر السوق، ما يخلق سعرا وهميا تتحكّم به منصّات افتراضيّة في ظلّ غياب منصّة وطنيّة شفافة لتداول النقد الأجنبي.
التفاوت العكسي يكشف هشاشة سياسة الصرف، حيث يشكك القطاع الخاص في قدرة البنك المركزي على ضبط السيولة الفعلية، أمّا إعادة هيكلة القطاع العام عبر تسريحُ نحو ثُلث الموظفين مع وعود رفع الأجور 400 % فكبحت تضخّم الأجور الاسمي، لكنّها ولّدت بطالة مقنعة خارج الخدمة المدنيّة، ولأنّ خطة إعادة هيكلة الدين لم تنطلق بعد، فإن معظمُ الإيرادات الجبائيّة يتم استهلاكها في خدمة دين يُصنَّف “ديونَ حرب غير مشروعة”، بينما تظلّ أدواتُ الرقابة البرلمانية والقضائية على الإنفاق غائبة، ما يفاقم خطرَ الوقوع مجددا في فخّ سوء الحوكمة.
فخّ الموارد: بين نفطٍ مستنزَف وريعيّة إعادة الإعمار
احتياطيات النفط الخام في الشمال الشرقي تراجعت إلى أقلّ من 70 ألف برميل/يوم، بينما يعول صانعو القرار على “ريع إعادة الإعمار” عبر منح عقود سخية لشركات مختلفة لبناء شبكات الكهرباء والطرق،وهذا النمط قريب مما يسمّيه كوليير “القطاع القائد ذو الحكومة الضعيفة”، حيث تخلق العقود الكبرى ريوعا سياسية تؤدي إلى المحسوبية، وإذا لم تُنشأ هيئةٌ مستقلة لإدارة العقود بشفافية، سيتحوّل ريع الإعمار إلى فخّ موارد جديد يقوي الفساد ولا يدفع نحو دفع النمو.
الأرض المقفلة والشراكات الإقليمية
رغم اندماج سوريا ضمن ممرّ مشرق المتوسط” الترانزيتي بين العراق وتركيا، يعرقل غياب الاعتراف الكامل بالحكومة الجديدة من قبل طهران والعراق حركة الشاحنات عبر الحدود الشرقية، وتأخر المؤتمر الدولي الذي كان مزمعا انعقاده في عمّان لوضع إطار تعرفة موحد؛ يبقي كلفة النقل البري عالية ويُقوض فرص التصنيع التصديري – وهو مسارٌ يوصي به كوليير بشدّة للدول غير الساحلية.

مقارنة تجريبية: رواندا وسيراليون نموذجا
بعد الإبادة (1994) استغلّت رواندا موارد المانحين في بناء نظام ضريبي شفاف، وبرامج صحة وتعليم كثيفة العمالة، فبلغ نموها المُركب 7 % لعقدين، أما سيراليون فظلت أسيرة ريع الماس وصراعات النخب فعاد دخلها للفرد إلى مستويات ما قبل الحرب بعد 15 سنة فقط.
يُشير كوليير إلى أنّ إصلاح المؤسسات أولا هو الأساس، وسوريا اليوم تُشبه سيراليون أكثر: مسار تشريعي غائم، تحالف بين أمراء الحرب الجدد ورجال أعمال قدامى، واستعجال في عقود المعادن والإسمنت قبل إصلاح إدارة الضرائب والجمارك.
سيناريوهات مستقبلية وفق نموذج كوليير
السيناريو | محدِّداته الرئيسية | 2025-2030 معدل نمو حقيقي | سماتٌ مؤسّسية | المخاطر |
متفائل | تنفيذٌ كامل لرفع العقوبات، برنامج صندوق النقد لإصلاح الدعم، هيئة شفافية للإعمار | 5–6 % | تحسين ترتيب مكافحة الفساد 40 مرتبة؛ توحيد سعر الصرف | انتكاسة أمنية، صدمة أسعار نفط |
وسط | تحرير تجارة وخدمات لكن بقاء فجوة سعر الصرف وفساد متوسط | 2–3 % | إصلاح جزئي للضرائب والجمارك؛ مشاركة محدودة للمغتربين | شُحّ الاستثمارات، تباطؤ المانحين |
متشائم | عودة جيوب النزاع، تجميد رفع العقوبات، توسّع اقتصاد الظل/captagon | <0 % | مؤسسات ضعيفة، انكماش ائتماني، تضخّم مفرِط | إعادة فرض عقوبات، انهيار سعر الليرة |
تكشف الأشهر الخمسة الماضية أنّ حكومة ما بعد 8 كانون الأول تمتلك شجاعة سياسية غير مدروسة في تفكيك بعض القيود (تحرير التجارة، دمج الوزارات)، لكنها ما تزال حبيسة ثلاثٍ من فخاخ كوليير: النزاع المعلَّق، الحوكمة الضعيفة، وفخّ الموارد المُستجد مع عقود الإعمار، والمستقبل الاقتصادي لسوريا مرهون بقدرتها على ترسيخ مؤسّساتٍ شفافة تعيد ثقة رأس المال الوطني والمغترب، وتحوِّل رفع العقوبات من حدثٍ سياسي إلى مسارٍ تنموي.
إن نجحت دمشق في بناء عقد اجتماعي جديد يربط الإيراد العام بالمنفعة الجماعية، فستنتقل من تصنيف “أرضٍ مقفلة مضطربة” إلى نموذجٍ إقليمي للتعافي المنظم، وإن أخفقت، فإن دوامة النزاع والريع ستعيد تدوير معضلة الإخفاق في التنمية، والوقت لا التمويل فقط هو المورد الأكثر ندرة اليوم.
ماذا فعلت سورية حتى يكرهها كل العالم