سوريا.. العنف الطائفي يكسر السلم الأهلي

تحولت الطائفية منذ سقوط سلطة البعث في كانون الأول 2024 إلى هاجس اجتماعي، فمع انتشار حالة ثقافية “شعاراتية” أصبحت المسألة السورية داخل صراع مستحدث بعنوان الأقليات، وتحولت السياسية باتجاه واقع جديد يرسم هوية الدولة والمجتمع على أساس التشدد الديني، فأحداث العنف الطائفي تشكل تداعيات للخطاب السياسي الذي ظهر مع سيطرة “هيئة تحرير الشام” على العاصمة دمشق.

السلطة الجديدة رسمت سوريا وفق تجربة قياداتها في التشكيلات الجهادية التي ظهرت خلال عقد ونصف في العراق وسوريا، وكان واضحا أن مشروعية الحكم الجديد تقوم على افتراض مظلومية لشرائح سورية محددة، بينما يغيب مشروع الوطنية الجامعة الذي وسم سوريا منذ الجمهورية الأولى.

جرمانا وصحنايا: الشرارة التي كشفت هشاشة السيطرة

انفجار الأوضاع الأمنية في ضواحي دمشق، تحديدًا في مدينتي جرمانا وصحنايا، نتيجة تسريب تسجيل صوتي منسوب لشيخ من طائفة الموحدين يتضمن عبارات مسيئة للنبي محمد، يكشف هشاشة سياسية غير مسبوقة ليس في مسألة السيطرة الأمنية بل أيضا في البعد السياسي للسلطة الجديدة التي لم تستطع إيجاد خطاب جامع، أو رسم مشروع يلغي المخاوف المرتبطة بتاريخ القيادات التي ظهرت في الحكم الجديد، ورغم نفي عدد من القيادات الروحية صحة التسجيل، فإن ردود الفعل ظهرت تحت مظلة السياسات العامة التي اعتمدت على شكل محدد واقصائي للدول وللحياة العامة السورية، واندلاع الاشتباكات العنيفة التي أوقعت ما لا يقل عن 13 ضحية، هي مؤشر عن عجز سياسي بالدرجة الأولى.

هذه الحادثة ليست استثناءً، بل تعكس هشاشة الوضع الأمني، وسرعة التحول من التوتر إلى العنف الطائفي المسلح، انتشار التسجيلات عبر وسائل التواصل الاجتماعي اصبح اللعبة السياسية الأخطر مع عدم وجود وسائل إعلام رسمية، أو آليات فعالة لضبط الشائعات واحتواء الموقف، ورد الفعل الرسمي تمثل في فرض حظر تجوال وانتشار أمني مكثف، لكن المعالجة بقيت سطحية، ولم تُلامس الجذر الحقيقي للأزمة: غياب الدولة، وتفكك النسيج الأهلي.

مجازر الساحل السوري: انتقام جماعي أم إعادة رسم للهويات؟

ما يحدث في جرمانا وصحنايا ليس بعيدا عن مجازر الساحل التي تصاعدت في آذار 2025، فعمليات القتل الجماعي في اللاذقية وطرطوس وبانياس كانت محطة مفصلية في تحول العنف الطائفي من مستوى محلي إلى مشروع “تصفية السلم الأهلي” بشكل منظم، فالأعداد الكبير التي سقطت في سلسلة هجمات وصفتها منظمات حقوقية بأنها “تطهير جماعي انتقامي”؛ تكشف عدم القدرة على رسم ملامح الدولة والاكتفاء بالضبط الأمني الشكلي.

ورغم تشكيل الحكومة الانتقالية لجنة تحقيق، فإن غياب الشفافية والنتائج الملموسة ساهم في تعزيز الشعور بالعجز داخل المجتمعات المحلية، وتركت مساحات واسعة من سوريا تحت تصرف المجموعات المسلحة التي نشأت وتطورت على فوضى السلاح والانتقام والتطرف.

العوامل السياسية وراء تصاعد العنف الطائفي

أحد أبرز ملامح المشهد السوري الجديد هو غياب المشروع السياسي الذي جعل السلطة في موقع حرج، فـ”الحكومة الانتقالية” التي تمثّل رسميًا الدولة، ليست عاجزة فقط عن السيطرة على سوريا، بل أيضا غير قادرة على استيعاب الفراغ السياسي الذي نتج بعد انهيار سلطة البعث، وتركت سوريا تُدار من قبل عشرات الفصائل المسلحة، وهذا التشرذم سمح بظهور سلطات محلية غير خاضعة للدولة، يبتنى كثير منها خطابًا طائفيا صريحا وجعل العنف الطائفي أداة مشروعة في صراع النفوذ.

التحريض الإعلامي والرقمي

تحولت وسائل التواصل الاجتماعي في ظل غياب المشروع السياسي إلى منصة مفتوحة لبث خطاب الكراهية، في ظل عدم وجود رقابة فعلية من الدولة أو الشركات المالكة، أصبحت المنصات الرقمية ساحة تنافس، والتسجيل الصوتي في جرمانا مثال صارخ على كيفية توظيف خطاب ديني محرّض لتحقيق أهداف سياسية، وليس فقط الجمهور هو الضحية، بل أيضًا مؤسسات الدولة التي تجد نفسها عاجزة عن السيطرة على تدفق المعلومات المفبركة.

ردود الفعل: بين الإدانات والقلق الدولي

محليا، خرج الشيخ حكمت الهجري، الزعيم الروحي الأبرز للطائفة الدرزية، بتصريحات حاسمة أدان فيها أحداث صحنايا وجرمانا، محذرا من “انزلاق البلاد إلى حرب أهلية طائفية لن ينجو منها أحد”، ودعوته لوقف الفتنة وإجراء تحقيقات مستقلة عكست حجم القلق داخل الطائفة.

دوليًا، أصدرت منظمات حقوقية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية” بيانات دعت فيها إلى تحقيقات عاجلة في الانتهاكات الأخيرة، مشددة على ضرورة حماية الأقليات ووقف سياسة الإفلات من العقاب، التي تعتبر – وفق تقاريرها – سببا رئيسيا في استمرار العنف، لكن رد الفعل الأبرز كان من البرلمان الأوروبي، الذي ناقش في جلسة طارئة تطورات الأوضاع الطائفية في سوريا، مع تحذيرات من “انزلاق الوضع إلى فوضى شاملة تهدد الأمن الإقليمي”.

بين دولة فاشلة ومجتمع مهدد بالتفكك

ما يجري في سوريا اليوم ليس أزمة انتقال سياسي، بل اختبار وجودي لفكرة الدولة نفسها، فالعنف الطائفي لا يهدد الأقليات وحدها، بل يعيد طرح سؤال جوهري: من يملك الحق في تعريف “الهوية السورية”؟

إن فشل الحكومة الانتقالية في حماية المدنيين من العنف الطائفي، وعدم قدرتها على ضبط الميليشيات، أو حتى بناء خطاب وطني جامع، ينذر بتحوّل سوريا إلى “دولة فاشلة” على مستوى الجامع الوطني، يعيش فيها كل مكون في قوقعة أمنية أو جيتو مسلح.

والمطلوب اليوم ليس فقط استنكار المجازر، بل بناء مشروع سياسي يعترف بالتعددية، ويقطع مع موروث الإقصاء، ويمنح الجميع ضمانات دستورية وأمنية حقيقية، دون ذلك، سيبقى مستقبل سوريا مرتهنا لعنف لا يعرف نهاية، وحرب كامنة تنتظر الشرارة التالية.

رسم بياني يوضح تصاعد العنف الطائفي وفق البيانات الخاصة بالمنظمات الدولية، وليس وفق التقدير الحقيقي الذي هو أكبر بكثير:

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *