من المرجة إلى المستقبل: شهداء 6 أيار وبناء الهوية السورية

تحضر اللحظات المفصلية في سوريا ليس فقط كذاكرة جمعية بل اختبار لصمود الهوية، فبالنسبة للسوريين 6 أيار ليس مجرد ذكرى عابرة، بل علامة دائمة على أن مشروع الدولة الوطنية لا يولد من فراغ، بل من دماء، وتعود رمزية هذا اليوم لتحتل مركزا متقدما في النقاش العام في ظل التشتت الذي يعيشه المجتمع السوري فماذا يعني أن تكون سوريا؟ وما نوع الدولة التي يمكن أن تنهض من ركام عقدين من الانقسام والحرب؟

6 أيار… التاريخ الذي لم يمت

في عام 1916، أُعدم العشرات من المثقفين والقادة العرب في ساحتي المرجة بدمشق والبرج في بيروت على يد جمال باشا السفاح، حيث أراد الرجل أن يُخمد أصوات الوعي والكرامة، لكنّه أطلق شرارة قومية ساهمت في تشكيل الهوية السياسية لسوريا المستقبلية، والإعدامات لم تكن انتقاما فرديا بقدر ما كانت إعلانا صريحا عن نهاية إمكانية الإصلاح في ظل السلطنة العثمانية، فتحوّلت تلك الدماء إلى نقطة ارتكاز في ذاكرة وطنية جامعة.

واستحضار ما جرى هو معرفة متجددة للحظة ميلاد تصوّر جماعي عن الوطن، لا يستند إلى إثنية أو طائفة أو جهة، بل إلى الفكرة السياسية للدولة الحديثة.

التنوّع في الشهادة… وحدة ما قبل الدستور

قوائم شهداء 6 أيار تكشف بوضوح عمّا يمكن تسميته “الهوية السورية التأسيسية”: فسيفساء مذهبية وعرقية تضمّ العرب والأكراد، المسلمين والمسيحيين، الدمشقيين والبيروتيين، سنة وشيعة. لم تكن هذه الفسيفساء مصادفة، بل تعبيرا عن رفض مشترك للاستبداد، وولادة فكرة الدولة كمكان للعدالة والكرامة لا للوصاية.

في ظل الانقسام الذي عاشته سوريا ما بعد 2011، كانت هذه اللحظة التأسيسية تُستدعى غالبا كشعار، لكنها لم تُترجم إلى مشروع سياسي حقيقي، ونهاية سلطة البعث 2024، وبعده الأحداث التي فتحت أسئلة جديدة أمام السوريين؛ تضع 6 أيار كصورة يمكن عبرها رؤية نوعية التفكير الذي يمكن أن يقود باتجاه دولة حداثية.

من الرمز إلى الاستراتيجية

ربما تكون أكثر معضلة تواجه السوريين اليوم هي: كيف نُنتج هوية وطنية جديدة تتجاوز تركة الحرب، وتستثمر في رموز الماضي دون الوقوع في فخ النوستالجيا؟ الجواب يظهر في تحويل “الجامع الوطني” من مجرّد استعارة إلى بنية سياسية وثقافية واقتصادية.

“الجامع الوطني” هنا ليس مجرد اتفاق عاطفي بين مكونات، بل برنامج عمل واضح، فالشهداء لم يموتوا من أجل تمجيد الأضرحة، بل من أجل تأسيس عقد اجتماعي. والسؤال الجوهري هو: هل يستطيع السوريون – اليوم – ترجمة هذه الرمزية إلى مشروع دولة جديدة؟

عمليا لا يعني سقوط النظام نهاية المشاكل؛ كما يعتقد الكثيرون بل بالعكس، تكريس حالة من الفوضى الدستورية، وتنازع مراكز القوى، وتدخل الخارج، وعودة الهويات ما قبل الوطنية إلى الواجهة، كلّها مؤشرات على أن المعركة القادمة هي معركة تعريف الوطن، في هذا السياق، يكتسب 6 أيار بُعدا جديدا: يوما لتثبيت فكرة المواطنة، وليس فقط لإحياء ذكرى.

ترجمة الذاكرة إلى مؤسسات

ما لم تُحوّل رمزية شهداء 6 أيار إلى أدوات فعّالة، فستظلّ مجرد رواية نخبوية، فالمرحلة الجديدة التي يمكن أن تُخرج سوريا من الاضطراب هي في النهاية خطوات استراتيجية لإعادة بناء الجامع الوطني، فترسيم الذاكرة عبر المكان، وإدراج قصص الشهداء في كتب المدارس كأمثلة على التعدّدية، لا كأبطال معزولين، لإعادة تعريف “البطل” و”الشهيد” في الوعي العام، يشكلان الروح التي يمكن أن يبدأ منها العقد الاجتماعي، إن اعتماد 6 أيار كيوم وطني لتكريم كل ضحايا الوطن والحروب من جميع الأطياف، وفتح سجلات المفقودين، بحيث لا يظلّ مصطلح “الشهيد” حكراً على طرف دون آخر، يشكل بداية جديدة لرسم ملامح فاعلة للرموز الوطنية.

من الخطأ الاعتقاد أن الدولة المدنية يمكن أن تُبنى في فراغ، فهناك حقائق صعبة، فوجود قوى خارجية لا تزال تعبث بمستقبل سوريا، واستقطابات طائفية لم تُحل بعد، ونظام دولي يتعامل مع البلاد كـ”ساحة نزاع” لا كدولة مستقلة، ومن هذه الصورة القاتمة يبدو الجامع الوطني أداة مقاومة سياسية، تماما كما كانت مشانق 1916 ردا على الاستبداد العثماني، فإنّ إعادة تعريف الشهادة والمواطنة اليوم يجب أن تكون ردا على من يريد لسوريا أن تبقى دولة فاشلة أو ساحة تصفية حسابات.

دماء شهداء 6 أيار ليست طقسا من الماضي، بل نداء للمستقبل، فإذا كان السوريون على أعتاب كتابة صفحة جديدة، فإنهم بحاجة إلى ذاكرة تمنحهم الشرعية، فالدول لا تبنى بالحنين وحده، بل بالإرادة التي تتجسّد في مشروع دولة وطنية، تعددية، ديمقراطية، ترى في التنوع ثروة، وفي الماضي عبرة، وفي الشهداء نقطة انطلاق لا مجرّد ذكرى.

1 فكرة عن “من المرجة إلى المستقبل: شهداء 6 أيار وبناء الهوية السورية”

  1. من الاجتهادات المهمة واللافتة في مشهد اليوم، حيث يذهب الكاتب أبعد من رومانسية الطروحات “المثالية” التي تملأ الفضاءات الافتراضية والإعلامية، إلى محاولة وضع تصورات واقعية وهادئة، للحلول، برغم أنها تبدو بعيدة عن توجهات القوى المسيطرة، ولكنها قريبة من الحقيقة.
    هذا أيضا مضاف إلى التشخيص الموضوعي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *