لم تكن زيارة أحمد الشرع إلى فرنسا مجرد محطة بروتوكولية ضمن روزنامة علاقات دبلوماسية ناشئة، وهبوط طائرته في باريس في 7 أيار 2025، كانت لحظة اختبار للرجل نفسه، ولموقعه ولمستقبل سوريا بعد سنوات من الحرب والفوضى، فالشرع، الذي تولّى رئاسة سوريا بعد سقوط نظام البعث، يحاول الدخول إلى المشهد الدولي وفي يده أوراق ضعيفة، لكنه يراهن على حاجة الغرب إلى الاستقرار أكثر من حاجته هو إلى الشرعية.
منذ اليوم الأول لوصوله طغى سؤال جوهري على كل التغطيات: هل تمثّل زيارة الشرع لفرنسا اختراقا فعليا في ملف عزلة سوريا؟ أم أنها مجرد محاولة جديدة لتلميع صورة سلطة انتقالية تفتقر إلى أدوات الحكم الفعلي؟
الزيارة: بين العنوان الرسمي والحسابات غير المعلنة
تحت السقف الدبلوماسي والبيان الرسمي الذي تحدث عن إعادة إعمار سوريا، وتخفيف تدريجي للعقوبات الأوروبية، والتعاون في ملفات اللاجئين ومكافحة الإرهاب، لكن الهدف المخفي أكثر أهمية لأنه يرتبط بترسيخ صورة الشرع كممثل شرعي وحيد للدولة السورية، حتى ولو كانت مؤسسات هذه الدولة بالكاد تعمل.
اللقاء مع إيمانويل ماكرون حمل رسائل مزدوجة، من جهة وعدت فرنسا بـ”دعم مشروط” لمسار الإصلاح، لكن الجانب الآخر هو تأكيد واضحوصريح أن رفع العقوبات لن يأتي إلا إذا التزمت دمشق بتعهداتها، خصوصا في ملفات حقوق الإنسان وحقوق الأقليات.
ما قيل أمام الكاميرات لم يكن مهما لأن عمق المباحثات هو فيما لم يعلن عنه رسميا؛ فالشرع جاء إلى باريس لأنه يعرف أن زمن البيانات الرمادية انتهى، لم يعد مقبولًا إلقاء اللوم على الإرث الثقيل لنظام السابق، أو الاكتفاء بخطابات انفتاح فارغة، فالغرب يريد مؤشرات حقيقية على أن سوريا قادرة على النهوض، وأن من يجلس في قصر الشعب في دمشق يمكنه أن يحكم، لا أن يتفرج.
ضعف داخلي وسقف خارجي منخفض
كل المؤشرات تفيد بأن أحمد الشرع لا يملك سلطة كاملة، فالنخبة الأمنية متشظية، والبيروقراطية فاسدة ومُنهكة، والمؤسسات القضائية بلا استقلال حقيقي، ووعود “الإصلاح” تبدو، حتى الآن، مشروعات على الورق، لا أكثر، ويدرك الشرع الضعف والفوضى داخليا، ويحاول تعويضه بحراك دبلوماسي خارجي، لكنه حتى اللحظة، لا يملك النفوذ الضروري لترجمة هذا الحراك إلى مكتسبات ملموسة.
الفرنسيون، بدورهم، لم يفتحوا ذراعيهم بلا شروط. هم يعرفون أن النظام السوري الحالي، حتى في شكله الانتقالي، لم يقطع مع أساليبه القديمة، هم يريدون دورا في الإعمار وملفات اللاجئين ومكافحة الإرهاب، لكنهم لا يثقون تماما بأن الشرع قادر على تحقيق ما هو مطلوب منه، فجاء خطابهم دقيقا عبر “التعاون مشروط، لا شيك على بياض”.
سوريا تحت المجهر: أوراق متضاربة في يد شرع
التحركات الفرنسية، من وجهة نظر باريس، جزء من استراتيجية أوسع لضبط التوازن في الشرق الأوسط، والحد من تغوّل النفوذ دول الإقليم في دمشق، لكنهم يعرفون أيضا أن الشرع ليس مشروعا فرنسيا، بل خيار اضطراري في لحظة اضطراب إقليمي.
من جانب آخر، يبقى الملف الأمريكي معلقا، فواشنطن لم تعارض الزيارة، لكنها لم تباركها أيضا، وما صدر عن الخارجية الأمريكية مجرد تعبير عن “اهتمام دبلوماسي” وليس دعما مباشر، ولا خطوات ملموسة، ما يعني أن أي رهان على تخفيف العقوبات بشكل جدي دون ضوء أخضر من واشنطن، يبقى وهما.
أما الاتحاد الأوروبي فالانقسام واضح، حيث اليونان وإيطاليا تؤيدان الانفتاح، أما ألمانيا ودول الشمال فتتحفظ، حالة ترقّب مشروطة بمخرجات الأشهر المقبلة هي ما يسيطر على دول الاتحاد.
الشرعية الناقصة
أحمد الشرع مازال على قوائم الإرهاب الأمريكية حتى ولو حاولت فرنسا تجاوز هذا الأمر، فهو ليس ديكتاتورا وفق وجهة النظر الفرنسية، لكنه أيضا ليس رجل دولة متكامل، يقود مرحلة انتقالية بتحالف فصائل مصنفة بأكملها على قائمة الإرهاب الدولي، ويريد التوفيق بين مطالب متضاربة: رغبة الداخل في الاستقرار، ومطالب الخارج بالإصلاح، ووسط موارد شحيحة وولاءات هشّة، وهو رئيس بسلطة محدودة، لكنه أمام اختبار غير محدود: هل يستطيع إثبات أنه أكثر من مجرد وجه جديد لمنظومة منهكة وأنه حقق التحول من “زعيم الفصائل” إلى رئيس دولة؟
الزيارة إلى باريس وفّرت له منصة دولية، لكنها في الوقت نفسه عرّضته للمساءلة، فالكل ينظر إليه كحالة اختبار، فإذا فشل في ترسيخ سلطة قابلة للحياة، فالعالم لن ينتظر طويلا، والبدائل ليست جاهزة، لكنها في طور التكوين.
نقطة التحول… أم نقطة الانكشاف؟
ما بين لقاءات الإليزيه، واجتماعات كاثرين كولونا، وتصريحات ماكرون المحسوبة، بدا المشهد كما لو أن الجميع يتعامل مع الشرع بحذر وفضول، ليس لأنه يملك ما يُقنع، بل لأنه هو الموجود حاليا، وما هو موجود قد يكون أفضل من الفراغ، أو من العودة إلى الفوضى.
لكن إن لم يتمكن الشرع من تحويل ما قيل في باريس إلى إجراءات واقعية على الأرض، لا سيما في قضايا اللاجئين، وحقوق الأقليات، والحوكمة فإن الرصيد الذي حصل عليه في فرنسا سيُستنفد بسرعة، العالم لا يعطي فرصًا غير محدودة.
رئيس في لحظة فراغ
زيارة أحمد الشرع إلى باريس لم تكن حدثا عاديا، لكنها أيضا ليست تحولا استراتيجيا، فهي لحظة سياسية حاسمة لرجل يحاول أن يصنع شرعيته عبر الخارج، لأنه عاجز حتى الآن عن تثبيتها في الداخل، وربما فتح ماكرون الباب، لكن عبور العتبة يتطلب أكثر من صور رسمية وتصريحات دبلوماسية.
ما يحتاجه الشرع هو قدرة تنفيذية، أدوات حكم، وشبكة تحالفات داخلية حقيقية، وما لديه حاليا هو مجرد مقعد في طاولة الكبار، بلا صلاحيات حقيقية، والسؤال الأهم الآن: هل يدرك الشرع أن العالم لا ينتظر؟ وأن سوريا لا يمكن أن تُحكم بشعارات مرنة في زمن القرارات الصلبة؟ الجواب يبدأ من دمشق، لا من باريس.