ظهرت هيئة تحرير الشام كسلطة أمر واقع ليس على المستوى السياسي فقط، فكافة المؤشرات والأحداث تؤكد أنها تسعى لرسم تحول اجتماعي فوق أنقاض الدولة المركزية، فهي تعمل على تشكيل معالم “الضبط النوعي” التي تتشكل ببطء ولكن بحزم، حيث يتم بناء نظام للسلطة بشكل خاص نحو النساء، وهذا الضبط ليس قانونيا أو مؤسساتيا بالمفهوم المدني، بل يستند إلى منظومة فقهية وأعراف تُوظّف النساء لضبط المجتمع ككل.
المرأة في السياق الاجتماعي الذي تحاول فرضه السلطة في دمشق هو رمز للانضباط الاجتماعي، فالسيطرة عليها تساوي السيطرة على الحقل الاجتماعي الأوسع، و”الضبط النوعي” يتضح في ممارسة هيمنة ممنهجة على النساء بوصفهن نقطة تقاطع للرمزية الأخلاقية والدينية والسياسية.
لم يكن اختطاف النساء الذي انتشر تباعا من الساحل إلى سوريا أحداثا معزولة أو ذات طابع جنائي صرف؛ بل كانت التعبير الأكثر صراحة عن تحوّل اجتماعي عميق، تَمدّ فيه السلطة الجديدة ذراعها داخل الحيّز الاجتماعي الخاص، مُعيدَة تشكيل العلاقة بين الجسد، والسلطة، والانتماء.
وثّقت هيئات حقوقية محلية 27 حالة اختطاف لنساء وفتيات خلال أربعة أشهر فقط، منذ ديسمبر 2024 وحتى أبريل 2025، في مناطق أصبحت تدور في فلك الجهاز الأمني والعقائدي للهيئة، هذه الحوادث لا تُفهم بوصفها خروقات، بل كإجراءات ممنهجة تكشف عن نموذج سلطوي جديد، تتقاطع فيه السلطة الدينية مع أدوات المراقبة والعقاب، وسط صمت دولي يجعل من الجسد الأنثوي ميدانا شاغرا للهيمنة والتأديب.
النظام القائم: سلطة بلا قانون، وعقيدة بلا سؤال
ما فرضته هيئة تحرير الشام لم يكن مجرد استبدال لنظام بآخر، بل إعادة بناء هرمي لمجتمع جديد قاعدته الطاعة وصورته الحشمة، ومنذ أن استولت الهيئة على أجزاء واسعة من سوريا، معلنة نهاية الدولة الوطنية وبداية زمن التنظيمات، لم يكن العنف الموجه ضد النساء انزلاقا، بل تجليا واضحا لسلطة تؤمن بأن جسد المرأة هو المكان الأول الذي يجب إخضاعه لترسيخ الهيمنة.
هيئة تحرير الشام، بعقيدتها السلفية الجهادية، أعادت صياغة مفهوم “المرأة” كمجال للرمزية الجماعية، وكمؤشر على نقاء الهوية، فهي ليست فردا بل وعاء للشرف، تُراقَب وتُحتجَز وتُعاد صياغتها تحت شعارات “التهذيب” و”التوبة” أجهزة “الحسبة” النسائية “غير المعلنة” تمارس سلطة لا تخضع للمساءلة، مدفوعة بفتاوى لا تعترف بالقانون المدني ولا بحقوق المتَّهَم.
في تفاصيل الغياب: نساء اختفين تحت ظلال النظام الجديد
وفقًا لمرصد وكالة ميزوبوتاميا ” Mezopotamyaشهد 15 أبريل 2025 اختطاف 17 امرأة وطفلًا في مناطق متفرقة شملت اللاذقية، حماة، السويداء، وطرطوس. وتُكمل وكالة Hawar الصورة بتوثيق حالات مماثلة وقعت في ظروف غامضة، حيث لا أسماء واضحة للفاعلين، بل إشارات فقط إلى جماعات مسلحة تنشط في المناطق الخاضعة لهيمنة الفصائل التي من المفترض أنها حلت نفسها بعد تولي حكومة انتقالية السلطة في دمشق.
في 14 أبريل، سجّل المرصد السوري لحقوق الإنسان اختفاء 17 أنثى، منهن قاصرات، بعد استدعاءات أمنية أعقبها انقطاع كامل للاتصال، وفي 23 مارس، وثقت حادثة اختطاف لامرأتين ضمن مجموعة مدنيين في الساحل الغربي، لتُبرهن أن هذه السياسة لا تُمارس في الهامش، بل باتت أداة ضبط تعمّ الجغرافيا الجديدة، و تم تسجيل نحو 50 حالة خـ ـطـ ـف على الأقل، من بينها حالة لامرأة متزوجة من جبلة، قيل إنها تركت زوجها وتزوجت رجلاً في بقعة جغرافية من التراب السوري.
ليست هذه العمليات عشوائية. بل هي موزعة على أنماط واضحة:
- الاستدعاء الأمني يساوي الاختفاء حيث تمثُل النساء أمام مراكز أمنية ثم لا تعود.
- العقاب باسم الفضيلة فتُختطف المرأة بتهمة فضفاضة، وتُخضع لما يشبه “دورات إعادة تأهيل”.
- الضغط عبر العائلة حيث يُحتجز أقرباء الضحية كوسيلة إجبار غير مباشرة.
الجسد المُراقَب: حين يصبح الشرف أداة عقاب
في قلب هذه الممارسات، تُختزل المرأة إلى معنى رمزي مشحون: الجسد الذي يحمل شرف الجماعة، أي خرق لذلك الجسد، بأي صورة كانت، يُفسر كضعف في البنية الأخلاقية العامة، ويجب معالجته بتدخل قسري.
تُعيد هيئة تحرير الشام إنتاج سلطة ذكورية شاملة، تُمارس حتى عبر نساء موظفات في جهاز “الحسبة”، أي أن القمع هنا لا يأتي من خارج الجسد الأنثوي، بل يُمارَس عبره، ليصبح بذلك أكثر إحكاما وشرعية اجتماعية، والدين وفق هذا النسق، ليس مَعبرا روحيا، بل أداة ضبط تستخدم فتاوى تُبرّر الاحتجاز، وتُخرِس الشك، وتلغي الحقوق الأساسية كالدفاع، والمحاكمة، والكرامة.
عنف لا يُسمّى: غياب العدسة الحقوقية الدولية
ما يُضاعف من وطأة هذه الانتهاكات، ليس فقط من يمارسها، بل من يغضّ الطرف عنها، فالمنظمات الدولية، رغم تواجدها المكثف في الملف السوري، لم تخصص حتى الآن أي آلية مستقلة للتحقيق في اختطاف النساء.
تقارير الأمم المتحدة تركز على النزوح، والأمن الغذائي، والإغاثة؛ أما اختفاء النساء وإخضاعهن القسري، فلا يزال يُعامل كقضية ثانوية، أو هامشية، حتى تقرير هيومان رايتس ووتش “Human Rights Watch” حول الانتهاكات أشار إلى الاعتقال والتعذيب، ولم يمنح للنوع الاجتماعي مساحة تحليل مستقلة.
إن اختطاف النساء في سوريا في ظل السلطة الجديدة ليس فقط قضية انتهاك لحقوق الإنسان، بل هو مرآة لبنية سلطوية جديدة تُعيد إنتاج مفاهيم الطاعة والعار، وتُمارس سيادتها من خلال أجساد النساء، وذلك وسط صمت العالم، حيث تُصبح كل امرأة مختطفة شهادة على غياب العدالة، وكل صمت رسمي امتدادا لسلطة لا تُقاوَم إلا بكشفها.