يحاول الرئيس الانتقالي لسوريا أحمد الشرع إعادة تعريف مفهوم “المجاهد الأجنبي” في السياق السوري، فهو أعلن عن مواقفه بشأن المقاتلين الأجانب الذين شاركوا في إسقاط النظام السابق، ولم يكتف بالإشادة بدورهم، بل ذهب إلى أبعد من ذلك ملمّحاً إلى إمكانية منحهم الجنسية السورية.
في وقت سابق عين الشرع بعضاً من المقاتلين في مناصب عسكرية رفيعة، وهذا التوجه يفتح باباً واسعاً للتساؤلات: هل نحن أمام محاولة لتطبيع وجود مقاتلين جهاديين سابقين ضمن أجهزة الدولة؟ أم أنها براغماتية سياسية نابعة من الضرورة؟
عملياً فإن سوريا بعد ديسمبر 2024، دخلت مرحلة انتقالية هشّة، فبينما يتقدّم مشروع بناء مؤسسات الدولة الجديدة، تقف قضية المقاتلين الأجانب كأحد أكثر الملفات تعقيداً، لأنها لا تختبر فقط قدرة الدولة على فرض القانون، بل تمس جوهر السؤال السوري: لمن تنتمي هذه البلاد؟ ومن يُقرر من هو المواطن؟
الشرع لا يقدّم إجابة تقليدية، بل يطرح رؤية تنطلق من الميدان لا من المبادئ، إذ يرى أن من قاتل ضد النظام السابق يستحق أن يكون جزءا من سوريا الجديدة، حتى لو لم يكن سوريا أصلاً، لكن ما يبدو سياسة “احتواء” في الظاهر، يُخفي في جوهره تحدياً وجودياً لمشروع الدولة الوطنية في سوريا.
تصحيح المسار أم إعادة إنتاجه؟
القرار السياسي الذي يتبنّاه الشرع لا يأتي في فراغ، فهيئة تحرير الشام، التي يقودها عملياً وإن تراجعت رمزياً، لم تخرج من عباءة “السلفية الجهادية” بالكامل، لكنها أعادت تعريف نفسها كمشروع حكم محلي، ومن هذا المنظور، يُفهم سعي الشرع إلى دمج المقاتلين الأجانب داخل الجيش الجديد: ليس بوصفهم غرباء، بل “مكوّناً انتقالياً” ساهم في إسقاط النظام.
إن تحويل هذا المكوّن إلى جزء من مؤسسة الدولة يحمل أكثر من دلالة، فهو يعكس نظرة واقعية قاسية تتعامل مع من يملك السلاح لا من يملك الشرعية، ومن جانب آخر يُرسّخ منطق الجماعات المسلحة: الولاء مقابل السلطة، وليس القانون مقابل الحقوق.
الجماعات الأجنبية: القوة الصامتة في خلفية الدولة
المقاتلون الأجانب في سوريا اليوم ليسوا مجرد “مقاتلين”، فهم شبكات ممتدة ومتماسكة أيديولوجياً واجتماعياً، فالحزب الإسلامي التركستاني، وجماعة الألبان، وغيرهم من مكونات هيئة تحرير الشام، لم يأتوا فقط للقتال بل أسّسوا حضوراً متجذراً، في بعض الحالات عبر الزواج والتجارة واللغة وحتى الخدمات.
التحوّل الحقيقي ليس في انتماء هؤلاء المقاتلين، بل في تأقلمهم مع الواقع السوري الجديد، ومن هنا تصبح الجنسية ليست فقط أداة مكافأة، بل تكريساً لبنية اجتماعية جديدة تتجاوز الهويات الوطنية التقليدية، وهذا التأقلم لا يعني اندماجاً لأن هذه الجماعات لا تزال تحتفظ بهويتها العابرة للحدود، وتاريخها مرتبط بالتيارات السلفية الجهادية العابرة للأوطان، وهذا الأمر يطرح مفارقة خطيرة فسوريا تسعى لتأسيس دولة وطنية بعد أن تدمرت مركزيتها، لكنها تعتمد على أشخاص لا يؤمنون بمفهوم الدولة القُطرية أصلاً.
الأمن الاجتماعي قبل الأمن العسكري
أحد أكبر المخاطر في سياسة الشرع ليس الأمن العسكري، بل تفكك النسيج الاجتماعي، فالسوريون الذين عاشوا عشر سنوات تحت نيران الحرب لا يبحثون فقط عن جيش موحّد، بل عن دولة تمنحهم شعوراً بأنهم أصحاب الأرض والقرار، وعندما يرون مقاتلين أجانب يحصلون على رتب لواء وعميد، بينما لا يُستشارون في تقرير مصير بلدهم، فإن أزمة الثقة لا تتراجع، بل تتعمق، فالتحدي الوجودي هو هل الدولة الجديدة قادرة على إنتاج سردية وطنية جامعة، أم ستتحول إلى واجهة لإعادة تدوير منظومة ما قبل الدولة، حيث يُقرَّر كل شيء بالبندقية لا بالانتخاب؟
في خلفية هذا المشهد لا يزال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) حاضراً بتهديده رغم خسارته للأرض، فوجود أكثر من 10,000 مقاتل في سجون شمال شرق سوريا، منهم آلاف لا يزالون فاعلين عقائدياً، يعني أن بيئة الفوضى قابلة للانفجار في أي لحظة، وتعيينات المقاتلين الأجانب داخل أجهزة الدولة، حتى لو لم يكونوا من داعش، تمنح التنظيم حجة جديدة لتأكيد سرديته: أن سوريا لا تحكمها دولة بل فصائل، وأن القتال لم ينتهِ.
إن أي عملية هروب من مخيم الهول، أو فشل في ضبط الولاءات داخل المؤسسة العسكرية، سيخلق نسخة هجينة من سوريا، حيث يتشكل نظام رسمي على الورق، وجماعات عابرة للحدود تتحكم فعلياً بالمفاصل الأمنية.
سوريا التي تتشكل: إلى أين؟
المرحلة الانتقالية ليست مرحلة حلول وسط، بل مرحلة حسم للهوية، فإذا أرادت سوريا أن تكون دولة، فلا بد أن تُحسم أولا ً قضية من هو السوري، لا بمن حمل البندقية، بل بمن قرر أن يكون جزءاً من مشروع جماعي لبناء وطن.
سياسات الشرع تجاه المقاتلين الأجانب تكشف عن مفترق طرق حقيقي فإما أن تكون سوريا مشروعاً وطنياً يُبنى على الشراكة والشفافية، أو أن تتحول إلى خليط من الولاءات العابرة، لا يجمعها سوى اتفاق مؤقت على تقاسم النفوذ.