مبادرة مجلس العلويين في سوريا – تحوّل في خطاب الطائفة أم محاولة لإعادة التموضع؟

ما يمكن قراءته في بيان مجلس العلويين في سوريا يوضح آلية سياسية غير مألوفة على مستوى الحياة السياسية، فهو وليد واقع سوري يتشكل بسرعة ضمن دولة مهشّمة وسلطة مركزية منهكة، ومجتمع تنتشر فيه ثقافة وافدة.

بالنسبة للطائفة العلوية، لم تكن هذه الحرب مجرد اضطراب سياسي، بل لحظة وجودية تهدد أمنها الجماعي، بدءا من استهدافها المبكر بمجازر طائفية، وصولا إلى التحريض الممنهج ضدها في كثير من الخطابات، فالبيان جاء كمحاولة لصياغة هوية سياسية جديدة، لا من موقع دفاعي أو تابع للسلطة، بل من منطلق المساهمة الفاعلة في بناء دولة تقوم على العدالة والمساواة، وتحمي كل المكونات من منطق الانتقام أو الاستئصال.

ويزداد هذا المسعى إلحاحا في ظل تَشكّل سلطة أمر واقع جديدة، تتغذى على الانقسامات، وتُكرّس ثقافة استبعاد وقمع تتجاوز في خطرها العلويين لتطال كل فئات الشعب السوري، وتهدد ما تبقى من النسيج الوطني السوري.

ما الذي يقوله البيان؟

بوضوح يُعلن البيان أن المرحلة تتطلب بلورة “استراتيجية لبناء دولة سورية حديثة”، ترتكز على العدالة والمساواة، واللافت أن الخطاب لا يأتي من منصة معارضة راديكالية، بل من داخل طائفة ارتبطت تاريخيا ببنية النظام السوري منذ السبعينيات.

ويحدد البيان ثلاثة مجالات عمل: روحي، مدني، وعلاقات عامة، وهذا التقسيم يحمل إشارات دقيقة، فالمجال الروحي يحافظ على الهوية الدينية، والمدني يسعى لتفعيل المجتمع، والعلاقات العامة توفّر غطاء سياسيا وقانونيا لبناء شبكة نفوذ محلية ودولية.

وذكر البيان أسماء مثل الدكتورة منى غانم والدكتور أمجد بدران، ما يشير إلى رغبة واضحة في إعطاء المبادرة شرعية من الداخل والخارج، فغانم، المعروفة بمواقفها السياسية المتوازنة وانخراطها في منظمات دولية، تعكس توجها نحو التخصص والخطاب المنفتح، بدلا من الاعتماد على رموز تقليدية أو عسكرية كانت تسيطر على الواجهة سابقا.

محاولة انفصال ناعم

النقطة الجوهرية في البيان ليست ما يُقال فقط، بل ما يُفهم بين السطور، إذ يشير إلى ضرورة منع إعادة إنتاج الاستبداد، و”اعتماد أسس تُعبّر عن الإرادة الشعبية لجميع السوريين دون تمييز”، وهذا بحد ذاته يمثل قطيعة مع أي رواية تحاول رسم تحالف للأقليات ضد الأكثرية، ففي السياق السوري الحالي، الذي تشهد فيه مناطق الساحل وبالأخص العلوية تدهورا اقتصاديا وأمنيا، فإن إعادة تعريف الذات الطائفية بعيدا عن السردية الافتراضية كـ”حاضنة النظام” إلى شريك في بناء “دولة مؤسسات” وهذا الأمر لا يأتي من فراغ، بل من شعور متزايد لدى أبناء الطائفة أنهم أصبحوا أكثر من يدفع ثمن المرحلة السابقة.

اللا مركزية الموسعة: مكسب سياسي أم خطوة تفكيكية؟

أحد أكثر بنود البيان جرأة هو تبنّي مبدأ “اللامركزية الموسعة”، ففي السياق السوري، هذا المصطلح يحمل أوزاناً سياسية ثقيلة، فهو يعني عملياً تفكيك جزء من صلاحيات الدولة المركزية، ومنح المجتمعات المحلية – ومنها الساحل– قدرة على تقرير مصيرها الإداري والاقتصادي وحتى الأمني.

غالبا ما تُقرأ اللامركزية في سوريا كمدخل واقعي لإنهاء الصراع، وليس كأداة تقسيم، لكن في هذا البيان، تبدو أقرب لمحاولة إعادة هندسة العلاقة بين المركز والطائفة، مع الحفاظ على السقف الوطني، مع إعطاء الانفصال معناً وظيفياً.

البُعد الدولي: لماذا الآن؟

مطالبة البيان بـ”آلية حماية دولية” لمنطقة الساحل وأرياف حمص وحماة، وتحديداً للنساء العلويات، يرفع الخطاب من مستوى محلي إلى نداء سياسي موجه للفاعلين الدوليين، ويشبه هذا الطرح في مضمونه ما قدمه الأكراد في شمال شرق سوريا بعد 2014، مع الفارق في التوقيت والتموضع الجغرافي، وهنا، علينا طرح سؤال أساسي: هل المجتمع الدولي مستعد للتجاوب مع مثل هذا النداء؟ وهل يمكن فعلياً فرض آليات حماية أو تطبيق لامركزية في مناطق ما تزال تحت سيطرة الإدارة الجديدة؟

ربما لا يتوقع القائمون على البيان استجابة فورية، لكن مجرد طرح الملف دوليا يمنحهم فرصة لبناء سردية جديدة: “نحن لسنا حماة النظام، نحن ضحاياه أيضا”.

الخطورة – أو الفرصة – في هذا البيان أنه يطرح نموذجا يمكن أن يتحول إلى إطار سياسي بديل عن النظام بالنسبة لبعض أبناء الطائفة، حيث لا يُعلن البيان معارضة صريحة، لكنه يحاول توظيف خطاب المعارضة المدني داخل عباءة الطائفة، وهذه نقطة موفقة.

والبيان لا يطالب بإسقاط النظام، لكنه يعيد تعريف الهوية السياسية للطائفة: من شريك في السلطة، إلى شريك في الدولة، لا في الاستبداد.

ومن خلال التركيز على المبادئ الأربعة (اللامركزية، المجتمع المدني، الثقافة الديمقراطية، وتمكين المرأة)، فإن القائمين على المشروع يحاولون رسم ملامح خطاب تقدمي، يتقاطع مع أجندات المجتمع الدولي، من دون الارتباط بأطر المعارضة التقليدية التي فقدت الكثير من مصداقيتها في نظر شرائح كبيرة من السوريين.

العوائق والتحديات

البيان لا يقدّم تصوراً واضحاً لعلاقته بالنظام الحالي، ويواجه تحديا داخل الطائفة نفسها، حيث لا تزال قطاعات واسعة ترى في هذا الخطاب “مغامرة” يمكن أن تؤدي إلى تفكيك آخر ما تبقى من الأمن النسبي في مناطقهم.

من جهة أخرى، يواجه المشروع رفضاً من بعض قوى المعارضة السورية التي ترى في أي تنظيم طائفي – حتى لو كان بصيغة مدنية – إعادة إنتاج للطائفية.

الطوائف تبحث دائماً عن الأمان قبل الديمقراطية، وعن الحماية قبل المشاركة، بيان مجلس العلويين هو محاولة لجمع هذه المتناقضات: خطاب ديمقراطي حديث، بلسان طائفي واقعي.

هل هي بداية تحول فعلي داخل الطائفة؟ أم مجرد لحظة سياسية تُستغل لتموضع جديد في مشهد يتغير بسرعة؟ من الصعب وضع إجابة كاملة لهذه التساؤلات، لكن ما هو مؤكد أن هذا البيان لا يمكن تجاهله، لأنه يكون بذرة مشروع سياسي جديد، لا للطائفة العلوية فقط، بل لصيغة دولة سورية غير مركزية، متحررة – جزئياً – من إرث الصراعات خلال عقد ونصف.

1 فكرة عن “مبادرة مجلس العلويين في سوريا – تحوّل في خطاب الطائفة أم محاولة لإعادة التموضع؟”

  1. لا بأس بهكذا بيان يضمن ليس فقط أمان وسلامة العلويين المضطهدين بل يثبت كونهم مكون كبير من مكونات المجتمع السوري الذي تريد غالبية طائفته السنية محي العلويين عن وجه الأرض مستخدمين ذريعة فلول النظام بينما في الحقيقة هم يشفون غليلهم بالانتقام من طائفة اضطهدوها وقتلوها لمئات السنين ثم تجرأت على التعلم واحتراف مهن رفعت من منزلتهم الاجتماعية، كما تجرأت على استلام سدة الحكم مما رفع من ثقلها السياسي. أتمنى أن ينجحوا في الحصول على دعم دولي يكفي لتطبيق هذه اللامركزية التي ستحمي كل مكونات المجتمع السوري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *