بيانان ومشهد واحد: قراءة تحليلية في خطاب المجلسين المشرقي والعلوي الأعلى

ضمن البيانيين التأسيسيين الصادرين في الثامن من أيار 2025، عن المجلس الوطني المشرقي والمجلس الإسلامي العلوي الأعلى في سوريا والمهجر؛ يظهر المشهد السوري في مساحة تحول نوعي يعكس تموضع الكيانات الطائفية ضمن المشهد السوري المتشظي.

بيان المجلس المشرقي من دمشق عبر عن رغبة مكوّن مسيحي في إعادة إنتاج ذاته سياسيا داخل العاصمة التي ما زالت ترمز لشرعية الدولة المركزية؛ أما الثاني فجاء ردا على حوادث اختطاف تستهدف نساء علويات، كاشفا عن تآكل الشعور بالأمان حتى ضمن ما يُفترض أنه “عمق طائفي محصن”.

البيانان، رغم اختلاف لغتهما ومناسبتهما، يؤشران على إعادة فرز جيوسياسي داخل البنية الطائفية السورية، حيث تسعى كل طائفة إلى تموضع جديد، خارج معادلات ما قبل أحداث 2011 وما بعد الحرب.

الجغرافيا الخائفة: أين نحن؟

البيان المسيحي المشرقي يبدأ بتوكيد الحضور التاريخي، من الكنعانيين إلى السريان، وهذا الأمر ليس حنينا للتاريخ، بل محاولة لرسم “جغرافيا تاريخية” مضادة لمنطق الإلغاء، فالمجلس يعلن: نحن لسنا بقايا، بل من مؤسسي الحاضر.

أما المجلس العلوي، فبيانه يبدأ من الخوف المباشر: نساء يُختطفن في وضح النهار، ويتجاوز أي استعراض تاريخي أو تعبير عن الهوية، فهو بوضوح صرخة استغاثة، وكل سطر فيه مشبع بالشك بالدولة، وبالمنظومة الأمنية، وبـ”الآخر”، فهو يحمل نبرة الطائفة المحاصَرة، لا الطائفة المبادِرة.

كلا المجلسين يتحدث من موقع أزمة، لكن أزمة كل منهما مختلفة؛ فالمسيحيون يعيشون قلق وجودي، والعلويون يواجهون رعب الانتقام والتعرية، فالبيانيين يعكسان جغرافيا الخوف، فأحدهما يحاول أن يؤسس ما يظنه أنه حضور دائم، والآخر يحاول النجاة من حاضر مهدد.

الدولة الغائبة: خطاب الحضور في ظل الفراغ

من اللافت أن كِلا البيانين يتعاملان مع “الدولة السورية” بوصفها غائبة، المجلس المسيحي يدعو إلى “حيادية الدولة” و”إعادة بنائها”، ما يعني أن الدولة الحالية منحازة ومهدمة، أما المجلس العلوي فيتحدث عن “تواطؤ الأمن العام”، وهو اتهام خطير يأتي من مؤسسة دينية “متهمة” بأنها الطرف الأقرب للنظام.

هذا التلاقي في توصيف غياب الدولة لا يعكس تقاربا سياسيا بقدر ما يكشف مدى التآكل الذي أصاب صورة الدولة في المخيلة الجماعية للطوائف السورية، الدولة لم تعد المرجعية، بل أصبحت إما عبئا أو تهديدا.

من الخطاب إلى التموضع: من يمثل من؟

المجلس المسيحي يتحدث عن “الخصوصية المسيحية” و”الهوية الوطنية الجامعة”، وهذه ازدواجية كلاسيكية في خطاب الأقليات السياسية تعني:”نحن جزء من الكل، لكن لنا خصوصيتنا”، والجديد هنا أن البيان يعلن بوضوح هدف “تمثيل المسيحيين سياسيا”، ما يعني سحب ورقة التمثيل من الكنيسة وربما من الأحزاب التقليدية كالقومي السوري أو البعث.

أما المجلس العلوي، فلا يتحدث لا عن تمثيل سياسي ولا عن برنامج مستقبلي، بيانه رد فعل، لا مشروع، فهو موقف طارئ، لكنه معبّر عن تحول مهم، فالمؤسسة العلوية الدينية بدأت تتكلم خارج جدران السلطة، تنتقدها، بل وتطالب بحماية دولية، وهذا جديد في تاريخ العلاقة بين المكونات السورية والخارج.

الدين كإطار أم أداة؟

البيان المشرقي مليء بالمراجع الدينية المسيحية، لكنه يقدم نفسه ككيان سياسي، مدني، ووطني، فالدين هنا إطار حضاري، لا أداة تعبئة، في المقابل، بيان المجلس العلوي ديني في الشكل والمضمون، لكنه لا يسعى لتأسيس سلطة سياسية، إنه أشبه بخطاب موجه للخارج كما للداخل، يريد الدعم، ويحذر من “الفتنة الطائفية”

هذا الفرق ليس سطحيا، بل يعكس موقفا مختلفا من مفهوم “المواطنة”: المجلس المسيحي يتبنى نموذجا فرنسيًا للعلمانية  (Laïcité)، حيث الحياد شرط للوحدة، أما المجلس العلوي، رغم مطالبته بالحماية، لا يطرح بديلا مدنيا واضحا، بل يبدو أقرب إلى النموذج اللبناني، حيث الطائفة كيان سياسي أولي.

الغائب الحاضر: السنة

لا يذكر أي من البيانين السنّة بشكل صريح، لكنهما يكتبان في ظلهم، فالمجلس المسيحي يصر على شراكته “مع كل مكونات المجتمع”، كإشارة إلى رفض تهميشه في دولة غالبية سنّية، أما بيان المجلس العلوي، فكل لغته مبنية على خوف من “المحيط السني”، حتى عندما لا يُذكر بالاسم.

هذا الغياب الحاضر يعكس مركزية المسألة السنية في معادلة السلطة والهوية في سوريا ما بعد الثورة، فالطوائف الأخرى، رغم اختلافها، يوحدها اليوم قلق مشترك: من إعادة تموضع “الأكثرية” إن حصل انتقال سياسي فعلي.

دمشق و”الداخل”: من يملك الشرعية؟

المجلس المسيحي يعلن تأسيسه من دمشق، وهذا ليس مجرد موقع جغرافي، بل تأكيد للشرعية، والقدرة على التحرك من قلب العاصمة، أي من قلب “النظام”.

لكن المجلس العلوي، رغم كونه علويا، لا يصدر بيانه من أي من مدن الساحل ولا من حمص، بل باسم “سوريا والمهجر”، وهذه إشارة مزدوجة: من جهة، تعكس عمق التشظي داخل الطائفة، ومن جهة ثانية، تكشف عن محاولة حماية دولية، لا فقط حماية محلية.

إذا قرأنا البيانين كمؤشرين لا فقط على مواقف، بل على اتجاهات، فإن سوريا تدخل مرحلة إعادة اصطفاف أهلي بغطاء مدني، فالمجلس المشرقي يؤسس لتمثيل مسيحي مباشر، خارج الكنيسة والنظام، بينما المجلس العلوي يلمّح إلى أن تحالف الطائفة مع الدولة لم يعد مضمونا ولا كافيا.

لكن الأخطر أن كل طائفة صارت تخاطب العالم بلغتها الخاصة، من خارج إطار وطني جامع، ولم يعد هناك “خطاب سوري” واحد، بل أرخبيل بيانات، كل منها يطلب أمنه الذاتي، وسوره الخاص، وهنا تظهر خريطة جديدة لسوريا ليس حسب المحافظات، بل حسب “الخطاب”، بيان هنا، نداء هناك، وكل منها يعلن: نحن وحدنا، نحاول البقاء.

1 فكرة عن “بيانان ومشهد واحد: قراءة تحليلية في خطاب المجلسين المشرقي والعلوي الأعلى”

  1. ليس خطراً أن كل طائفة أصبحت تخاطب العالم بلغتها الخاصة!!! لو لم تقم تلك الحكومة اللاشرعية بوحشية تامة بقتل العلويين وخطف بناتهم وطردهم من وظائفهم لما طالبت تلك الطائفة بمحاسية المجرمين من الأمن الإرهابي وبالحماية الدولية وباللا مركزية. لماذا لم تفتح “سورية الغد” فمها بكلمة توبيخ لمرتكبي الجرائم حتى لا تصل الأمور إلى هذا الحد من اليأس والخوف وعدم الأمان بدلاً من أن تلوموا الأقليات على مناجاة العالم بحمايتهم قبل أن يبيدوهم عن بكرة أبيهم قتلاً أو خطفاً أو جوعاً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *