في لحظةٍ مفصليةٍ في العلاقات الدولية والمتغيّرات الجيوسياسية في الشرق الأوسط، صعدت تصريحات الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لتعلن رفعَ العقوبات عن سوريا، فتتصدّر المشهد السياسيّ والإعلاميّ مجددا.
أولاً: الرواية السعودية تحت المجهر
أشارت الكاميرا مباشرة إلى ولي العهد السعودي محمد بن سلمان وهو يعبّر بحركة شكر مدروسة، ما يشي بأن “الوعد برفع العقوبات” يُقدم في الإعلام على أنه إنجاز سعودي بامتياز، وتحمل هذه القراءة في طياتها رسالة واضحة بأن الصدارة السعودية في المعادلة السورية لا تُقاس فقط بمدى قدرتها على إعادة دمشق إلى الحضن العربي، بل أيضا بقدرتها على استثمار النفوذ الأميركي لتحصين مكانتها كضامن للعملية السياسية المستقبلية في سوريا، فالرياض راهنت على أن يكون رفع العقوبات ثمرة جهود دبلوماسية مُنسّقة مع واشنطن، ما يعزز من نفوذها في الملف السوري في مواجهة نفوذ أنقرة، ويجعل من السعودية مرجعية أساسية لأي مسار تصالحي أو إعادة إعمار.
غير أن هذه الرواية السعودية ليست معزولة عن الواقع المعقد القائم على الأرض، فالثنائية السعودية–التركية تتنافس في سورية، وكل خطوة أميركية تصبّ في موازين القوى الإقليمية، وفي حال تحقق رفع العقوبات عمليا، فإن الرياض ستستفيد من مكاسب رمزية مهمة، لكن المخاطرة تكمن في أن يؤدي ذلك إلى ضغوط مضادة على الأخص من “إسرائيل” التي تحاول حجز مساحة نفوذ لها بشكل قوي، وتفرض واقعا خاصا سواء داخل التوازنات السورية أوعير التمدد في الجنوب الغربي لسورية، والنجاح الإعلامي السعودي لا يساوي بالضرورة تحقيق المصالح الميدانية على الأرض، وهو ما يعيد طرح سؤال عن جدوى الإعلام المكثف في مواجهة الوقائع المعقدة.
ثانيًا: “جائزة ترضية” لأنقرة وتداعيات ملف الأكراد
في السياق نفسه، يُستنتج من المواقف المتسلسلة لرابطة الدمج الإقليمي أن ثمة “جائزة ترضية” مُمنوحة لتركيا؛ تمثلت بإعلان حزب العمال الكردستاني حلّ نفسه وتسليم سلاحه لأول مرة منذ خمسة عقود، وهذا الإعلان يأتي بناءً على طلبٍ من زعيم الحزب عبد الله أوجلان الموجود في سجون تركيا، ويمكن قراءة هذه الخطوة على أنها جزء من مسار أوسع بين أنقرة ودمشق للدخول في حل مسألة قوات قسد.
المؤكد أن هذا التنازل من جانب حزب العمال لا ينهي جذور الخلافات التاريخية بين الأكراد والسلطتين التركية والسورية، فمسألة الهوية الكردية والحكم المحلي لا تزال عالقة في غموض، كما أن المنظمات الكردية المسلحة الأخرى تتمتع بقدر من الاستقلالية التي لا تخضع بالكامل لقرارات أوجلان، ويمكن اعتبار هذا الإصدار الإعلامي مجرد مناورة في ساحة النفوذ لا أكثر.
ثالثًا: الحماس الشعبي وتردّد البحر المخفي
جميع أطياف الشعب السوري يتطلعون إلى رفع العقوبات، حيث أرهقتهم سنوات الحصار وعوائق إعادة الإعمار ونقص المواد الأساسية، وخلق الإعلان عن رفع العقوبات أجواء من التفاؤل المؤقت، بوصفه بارقة أمل تنهي جزئيا معاناة السوريين اليومية جراء ارتفاع أسعار الوقود والغذاء والدواء، لكن هذه الفرحة يصحبها القلق، لأن كل وعد بتحسين الوضع سرعان ما يصطدم بالواقع السياسي، وبالتطورات الإقليمية.
تخشى الغالبية من أن يكون رفع العقوبات عرضا إعلاميا فقط، يسبق سلسلة شروط وقيود سياسية تجعل من التحرك الاقتصادي مقيدا بشروط إعادة هيكلة النظام، فمحافظة نظام العقوبات على بعض القطاعات، أو وضعها تحت إشراف دولي مشترك، يدفع السوريين مرةً أخرى لتحمّل أعباء جديدة بداعي الإصلاح والتغيير. بهذا المعنى، فإن التفاؤل الشعبي رغم أهميته كداعم نفسي يبقى هشا أمام احتمال بأن تتحول “الفرصة” إلى مقايضة سياسية تجعل من رفع العقوبات مستحيلًا أو مجرّد أداة ضغط.
رابعًا: المصالح المتشابكة ونظرة استشرافية
تتداخل في هذا السيناريو المصالح الأميركية، الخليجية، التركية، و”الإسرائيلية”، وربما الروسية في الخلفية. الولايات المتحدة، رغم تصريحات ترامب، ربما تتحالف مع قوى داخلية سورية لمزيد من الإصلاحات مقابل رفع تدريجي للعقوبات، فيما تسعى موسكو للحفاظ على نفوذها العسكري والاقتصادي عبر شركات إعادة الإعمار الروسية، ومن جهة أخرى، تزداد أهمية المؤسسات المالية الدولية في قرار رفع العقوبات نتيجة الضغوط الأميركية – الخليجية، وهو ما يفتح الباب أمام مفاوضات مع صندوق النقد الدولي لتقديم قروض بالشروط المعهودة.
وفق هذا السيناريو يتحول رفع العقوبات إلى لعبة تفاوضية كبرى، لا يتعلق مصيرها بترتيب عمودي بين واشنطن ودمشق فقط، بل بمنظومة علاقات متداخلة تشارك فيها قوى إقليمية ودولية، وتصبح سوريا محطة اختبار لقدرة اللاعبين الإقليميين على فرض رؤاهم، ومؤشرا إلى مدى تحول السياسة الأميركية في المنطقة بعيدا عن حرب المحاور التقليدية.
إعادة بناء الثقة والشرعية الذاتية
يبقى السوريون أكثر الأطراف تضررا من سنوات العزلة والاقتتال، ورغم أن رفع العقوبات يمثل خطوة ضرورية لعودة الخدمات الأساسية، فإن المطلوب بعدها هو إعادة بناء ثقة متبادلة بين النظام والمجتمع المدني، وتحقيق مستوى مقبول من “القوة الذاتية” التي تحمي الحقوق، فتأسيس مؤسسات تنفيذية شفافة، وإطلاق آليات محاسبة جدية، وربما تأسيس هيئة مستقلة لإعادة الإعمار، كلها عوامل ستحدد قدرة سوريا على تحويل “الفرصة الدولية” إلى واقع ملموس.
أما عن الشرعية المحلية، فتسهم المشاركة الشعبية الواسعة في صياغة الحلول الاقتصادية والإدارية في تخفيف الاحتقان وخلق أرضية صلبة للإعمار، ولن ينجح أي مسار دولي دون قاعدة مجتمعية تقبله، ولذلك ينبغي أن يرافق رفع العقوبات خطوات واضحة نحو الحوار الوطنيّ والمصالحة.
في ضوء المعطيات المحدودة التي قدمها المشهد الإعلامي والتصريحات الرسمية، يبدو رفع العقوبات فرصة محفوفة بالتعقيدات، فبين رواية الإنجاز السعودي، وإغراءات تركيا بمسألة الأكراد، وتوق السوريين إلى انفراج اقتصادي، تنسج خيوط صراع الأجندات الإقليمية والدولية، ويبقى السؤال الأبرز: هل سينتهي هذا الوعد إلى تحرك فعلي يحرر الاقتصاد السوري من قيوده الصارمة، أم سيظل مجرد رسالة رمزية وسط حرب التأويلات بين القوى الكبرى؟ والإجابة على ذلك تتوقف على مدى قدرة الرئيس الانتقالي على استثمار هذه الفرصة لإعادة بناء مؤسساتها، وتقديم تضحيات حقيقية في مسار المصالحة الوطنية، والحفاظ على توازنات إقليمية تحمي سيادة دمشق وتضمن الشعب السوري مستقبلًا أفضل.