سوريا تحت الوصاية الأمريكية.. “الحوكمة بالوكالة” لإعادة تشكيل الشرق الأوسط

مراجعة تصريحات ماركو روبيو، وزير الخارجية الأمريكي، حول سوريا، تؤشر لنمط من الاستراتيجيات بناء “الدولة التابعة” تحت ستار دعم “الحوكمة الرشيدة”، لكن الجديد اليوم ليس في النية الأمريكية، بل في الآلية المستخدمة عبر “الحوكمة بالوكالة”، وتصريحات ماركو روبيو، بعد سلسلة اجتماعات سرية في بروكسل والدوحة، كشفت عن استراتيجية تتجاوز مسألة الاستقرار السوري لتركز على إيجاد نموذج “مُحَكَّم” سياسيا واقتصاديا، يتماشى مع مصالح واشنطن وتل أبيب؛ يهدف لعزل سوريا عن محيطها التقليدي (مثل إيران وروسيا) لصالح تحالف إقليمي جديد يُدار عبر آليات “الحوكمة بالوكالة” التي تُعيد تعريف الهيمنة من خلال سيطرة غير مباشرة. 

الأمن ذريعة للوصاية

يظهر طلب الحكومة الانتقالية بقيادة أحمد الشرع من واشنطن مساعدتها في “طرد المقاتلين الأجانب”، تحركا منطقيا في بلد تحوّل إلى ساحة لصراعات متعددة الجنسيات منذ 2012، لكن عمق هذا الأمر يتعدى الدعم العسكري، فالولايات المتحدة لا تكتفي بمساعدة تقنية، بل تطمح لتكون الموزّع الرئيسي للقوة العسكرية الشرعية على الأرض، وبشكل يضع القوات الأمريكية، ومعها حلفاؤها المحليون كـ”قسد”، في موقع الحَكم على من يُعتبر “إرهابياً” ومن هو “معتدل”، ويتحول الأمن إلى وسيلة لإعادة رسم التوازنات داخل سوريا، وليس فقط لحمايتها من الفوضى.

في واقع الأمر، فإن واشنطن تستخدم الفوضى نفسها كمدخل لتعزيز نفوذها، وهذا نهج معروف في نماذج ما بعد الحرب الباردة، حيث يُربط الأمن بالتمويل، والتمويل بالطاعة السياسية.

الهندسة السياسية على الطريقة الأمريكية

الملاحظة الثانية حول تصريحات روبيو  تتعلق بـ”إعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية تعددية”، فهذه العبارة، التي طالما رُددت في العراق وأفغانستان وليبيا، أصبحت تشكّل واجهة لفرض نموذج ديمقراطي لا يأخذ في الحسبان البنية الاجتماعية أو التقاليد السياسية للدولة المستهدفة.

تتميز سوريا بتركيبة طائفية وقومية معقدة، ويصبح فرض نمط غربي من الديمقراطية مشروعا تفكيكيا بامتياز، فبدلا من السعي إلى بناء عقد اجتماعي داخلي، تُرسم السياسات من الخارج، لتتماشى مع تصورات واشنطن عن “الحرية”، ولو كانت هذه التصورات مصمّمة لتخدم توازنات إقليمية لا علاقة لها بالإجماع السوري الداخلي، وتصبح “الوكالة السياسية” مفروضة على القيادة الانتقالية، التي لا تملك حرية ترتيب أولوياتها، فكل مشروع إصلاحي سيمر عبر مصفاة التمويل الأجنبي، وبالتالي عبر أجندة مانحيه.

أما إعادة الإعمار في سوريا فليست مسألة إنسانية بحتة، بل سوق بمليارات الدولارات، يشترط فيها الغرب توافر “البيئة السياسية الملائمة” ولكن من يحدد هذه البيئة؟ سيكون أصحاب المال من يرسم كل التفاصيل، فالتصريحات الأمريكية تشير إلى إمكانية تخفيف العقوبات وتسهيل الاستثمار الدولي، لكن بشروط سياسية، وهذا يعيدنا إلى تجارب سابقة في دول أخرى، حيث تحوّلت برامج الإعمار إلى أدوات للنفوذ، وجرى تهميش الشركات الوطنية لصالح مقاولين دوليين مرتبطين بعواصم القرار.

في هذه الحالة، ستكون السلطة الانتقالية في دمشق أمام خيار صعب: القبول بشروط سياسية خارجية مقابل تمويل عاجل، أو المخاطرة باستمرار الانهيار الاقتصادي، والمرجح أن تستسلم كما استسلم غيرها، فيتحول “الإعمار” إلى صفقة، لا إلى مشروع سيادي.

التطبيع كأداة لإعادة الهيكلة الإقليمية

ربط الدعم الأمريكي لسوريا بمسار اتفاقيات أبراهام هو تطور بالغ الخطورة، فهو لا يعني فقط إدماج سوريا في تحالفات جديدة، بل أيضاً إعادة تعريف عدوها وصديقها، فتاريخيا، كانت سوريا تحتفظ بهويتها الجيوسياسية من خلال تموضعها ضد إسرائيل، ومن خلال دعمها لحركات مقاومة، والمطلوب منها اليوم أن تعيد تموضعها وفق الرؤية الأمريكية–الإسرائيلية، التي تُعرّف الأمن الإقليمي عبر تطبيع شامل.

والتطبيع لم يعد خيارا سياديا، بل شرطاً ضمنياً للاندماج في المنظومة الدولية، ما يضع القيادة السورية الانتقالية في صدام مباشر مع المزاج الشعبي، الذي لا يزال يرى في إسرائيل قوة احتلال لا شريك سلام.

النتيجة الطبيعية لهذا المسار هي ما يمكن تسميته بـ”الدولة التابعة”، حيث تفقد القيادة السورية قدرتها على اتخاذ القرار خارج المظلة الأمريكية، والأخطر أن تصبح شرعيتها مرهونة باستمرار رضا المانحين، لا برضا شعبها، وهنا جوهر “الحوكمة بالوكالة”، فهي ليست مجرد مساعدة، بل عملية إعادة صياغة للهوية السيادية للدولة، بحيث تصبح أدوات القرار موزعة بين العواصم الكبرى، فيما تُترك القيادة المحلية لإدارة التفاصيل اليومية دون حرية تحديد الاتجاه الاستراتيجي.

لعبة النفوذ على رقعة الشطرنج السورية

التحول نحو الوصاية الأمريكية لا يُقرأ بمعزل عن الموقف الروسي أو السعودي أو التركي، فكل من هذه القوى تعتبر نفسها شريكا أو خصماً في الملف السوري، وسحب دمشق إلى محور واشنطن سيشكل تهديدا مباشراً لمصالحهم.

روسيا ستقاتل للحفاظ على نفوذها العسكري في طرطوس وحميميم، وربما تلجأ إلى تعطيل أي تسوية لا تضمن بقاءها لاعبا أساسيا، بينما السعودية تريد الحصول على أوراق قوية في سوريا، وليس بالضرورة للاستثمار الاقتصادي، إنما لتبقى ضمن الدور الإقليمي القوي في شرقي المتوسط، أما تركيا، فهي تمارس نفوذا فعليا في الشمال السوري ولن تسكت أمام أي تهديد لمصالحها الأمنية.

بهذا المعنى، فإن انزلاق سوريا نحو “الحوكمة بالوكالة” لا ينهي الحرب، بل يغيّر شكلها من حرب مفتوحة إلى حرب نفوذ تُدار بالموازنات والدبلوماسية والضغط الاقتصادي.

ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد انتقال سياسي، بل إعادة برمجة كاملة للسيادة، فالولايات المتحدة، عبر تصريحات روبيو، لا تعرض شراكة، بل تقدم عقد إدارة مشروطة، وقبوله سيحوّل دمشق من عاصمة قرار إلى غرفة عمليات تعمل بالتنسيق مع واشنطن وتل أبيب والدوحة.

الخطر ليس في الدعم الأمريكي، بل في الشروط التي ترافقه، فالدعم الخارجي يمكن أن يكون مفيدا إذا كان محكوما بأجندة وطنية، لكنه يصبح سلاحا إذا كان مشروطاً بتغيير جوهري في هوية الدولة، والتحدي أمام السوريين اليوم ليس فقط إعادة البناء، بل استعادة قرارهم الذي لا يُصنع في مراكز الدراسات أو غرف السفارات، بل في ميدان تفاوض وطني حقيقي، مستقل، وشامل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *